صحيح أنّ الجبهة عادت إلى سياقها الطبيعي، بصورة أو بأخرى، بعد الانتهاء من تشييع القائد العسكري في "حزب الله" هيثم الطبطبائي، ولو أنّ السياق الطبيعي هنا ليس طبيعيًا بالضرورة، مع ما ينطوي عليه من خروقات وانتهاكات متواصلة لاتفاق وقف إطلاق النار، إلا أنّ الأكيد أنّ اغتيال "الرجل رقم 2" في الحزب كما وُصِف إسرائيليًا، شكّل "نقطة فاصلة" بين مرحلتين، في سياق الهدنة الهشّة التي أرساها الاتفاق من طرف واحد قبل نحو عام.
فإذا كانت عملية اغتيال المسؤول العسكري السابق في الحزب فؤاد شكر نقلت ما سُمّيت "جبهة الإسناد" للشعب الفلسطيني المُحاصَر في قطاع غزة، إلى "مواجهة مباشرة" بين الحزب وإسرائيل، ونقلت "تفجيرات البيجر" هذه المواجهة إلى مكان لم يكن يتوقّعه أحد، بدت عملية اغتيال الطبطبائي لكثيرين إيذانًا بانتقال المواجهة إلى مستوى مختلف، ولا سيما أنّ المستهدَف هو الرأس العسكري الأعلى في بنية الحزب، وفي لحظة يُفترض أنها "ما بعد الحرب".
لكنّ لبنان في قلب الحرب، وليس في مرحلة "ما بعدها"، بإقرار ضمنيّ من رئيس الحكومة نواف سلام، الذي أعلن أنّ لبنان يعيش "حالة حرب تتصاعد وتيرتها، وقد اتخذت طابع حرب الاستنزاف من طرف واحد"، مشيرًا إلى أنّ الدولة "تتّخذ الاحتياطات الضرورية لمواجهة أي عمليات تصعيد"، وذلك بالتوازي مع عودة الحراك المصري إلى صدارة المشهد، في ضوء الدور الذي يبدو أنّ القاهرة تسعى للعبه من أجل تفادي الانزلاق إلى مواجهة شاملة جديدة.
هكذا تلتقي صورة الجنوب الذي يدفع ثمن الغارات المتقطعة والتهديدات المفتوحة، مع صورة الضاحية التي تسترجع مكانها على خريطة بنك الأهداف، ومع مسار دبلوماسي إقليمي تقوده مصر يحاول أن يلتقط اللحظة قبل أن تتحوّل إلى انفجار أكبر. فأيّ قواعد لعبة تُرسَم للبنان في هذا المشهد المركَّب، وهل من ترتيبات جديدة تُفرَض عليه، أمنيًا وعسكريًا على الجبهة الجنوبية، ولكن أيضًا سياسيًا في داخل النظام وإقليميًا في موقع البلد من خرائط التحالفات والضغوط.
في المبدأ، لا شكّ أنّ استهداف شخصية كهيثم الطبطبائي يمثّل من الناحية العسكرية البحتة، قفزة في مستوى الرسائل التي تحاول إسرائيل إرسالها، فالرجل يقدَّم في الروايات الإسرائيلية والغربية بوصفه "العقل المنظّم" للعمليات العسكرية للحزب، والمسؤول عن إعادة بناء قدرات الحزب بعد الحرب الأخيرة، وهو ما يصرّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في كلّ خطاباته بأنه لن يسمح به، تحت أيّ ظرف من الظروف، ما يُفهَم منه أحيانًا أنّ إسرائيل تحضّر الأرضية لعدوان جديد على لبنان تستكمل من خلاله ما بدأته في الجولة الأولى.
بهذا المعنى، تبدو إسرائيل وكأنها تلوّح بالعودة إلى النهج الذي اعتمدته عشيّة عدوانها على لبنان، حين مهّدت له بسلسلة اغتيالات طالت كبار قادة الصف الأول في "حزب الله"، لكنّها قبل كلّ شيء، تسعى إلى إرباك دوائر القرار العسكري داخل الحزب، ودفعه إلى إعادة ترتيب بنيته القيادية تحت الضغط، فضلاً عن إحراج الحزب أمام بيئته الحاضنة، بإظهاره وكأنه لم يتعلّم الدروس، وأنه لا يزال مخترقًا، وإلا كيف يمكن لإسرائيل الوصول إلى شخصية بهذا الحجم؟.
في المقابل، تتقاطع القراءات على أنّ موقف "حزب الله" لا يبدو مريحًا، ليس فقط لأنّ التفوّق الإسرائيلي لا يزال واضحًا، بدليل القدرة على الوصول إلى شخص بهذا المستوى، رغم كلّ الإجراءات والاحتياطات التي يفترض أن يكون قد أخذها، ولكن أيضًا لأنّه لا يبدو قادرًا على أخذ موقف حاسم، فالردّ قد يعني نجاح إسرائيل في استدراجه أخيرًا إلى المعركة، وعدم الردّ قد يوصل رسالة سلبية مفادها أنّ الثأر لدماء القادة أضحى خارج القاموس.
وفي وقت يستغرب المحسوبون على "حزب الله" كيف تحمّله القوى الغربية مسؤولية الذهاب إلى التصعيد من عدمه، باعتبار أنّ الحرب "مرهونة" بما إذا كان سيردّ، علمًا أنّ السؤال بحدّ ذاته يؤشّر إلى فعل سبقه، لكنّه لم يلقَ اهتمام الدول الضامنة على ما يبدو، علمًا أنّ الاغتيال هنا ليس فعلاً منفصلاً عن السياسة، وإنما يصبح أداة ضغط تُستخدم داخل "معركة قواعد الاشتباك" بقدر ما تُستخدم داخل المعركة العسكرية المباشرة.
في ظلّ هذا التصعيد النوعي، يتقدّم المسار المصري كإحدى الأوراق القليلة الموضوعة على الطاولة لمنع تحوّل حرب الاستنزاف المفتوحة من طرف واحد إلى حرب شاملة. فالقاهرة، التي راكمت تجربة طويلة في إدارة الوساطات بين إسرائيل وغزة، تحاول اليوم نقل جزء من هذه الخبرة إلى الساحة اللبنانية، من خلال عرض وساطة تقوم على حزمة عناصر متداخلة، وعلى مبدأ "الخطوة مقابل خطوة"، الذي يمكن أن يكون مقبولاً من الطرفين كحلّ وسط.
ثمّة من يرى أنّ تجدّد المبادرة المصرية في هذا التوقيت بالتحديد، وبعيد جريمة الاغتيال، لم يكن محض صدفة، بل لوجود هواجس فعلية لدى القاهرة وغيرها من العواصم من أن تنفلت الأمور إذا ما لجأت إسرائيل إلى توسيع نطاق عملياتها قبل فترة الأعياد، في حال لم تلمس تقدّمًا ملموسًا على مستوى تنفيذ خطة "حصر السلاح بيد الدولة"، وهي التي تعني عمليًا "نزع سلاح حزب الله".
وينعكس ذلك على المضمون أيضًا، إذ يمكن قراءة التحرّك المصري على أنّه محاولة لصوغ معادلة جديدة تحفظ للبنان قدرًا من الاستقرار، من دون أن تصطدم مباشرة بشروط "حزب الله" الذي أشارت بعض الأوساط إلى أنه رفض الوساطة بصيغتها الأولية، إلا أنّ هذا بالتحديد هو ما يخشى كثيرون أن يكون سببًا في تحويل المبادرة إلى مجرد "ملء وقت ضائع"، ولا سيما أنّ نزع السلاح الذي يرفضه الحزب، باتت تتعامل معه إسرائيل بوصفه "شرطًا" للتفاوض.
هنا، ثمّة من يشير إلى أنّ ما تريده تل أبيب، ومعها واشنطن، بات يتجاوز نزع السلاح، باعتبار أنّ الفرصة المتاحة اليوم من أجل إعادة ترتيب المشهد قد لا تتوافر مرّة أخرى، إذا لم يعرف المعنيّون كيف يتعاملون معها. وتبدو واشنطن "متقدّمة" في هذا السياق، وهي التي بدأت تربط، ولو تلميحًا، المساعدات التي تقدّمها للبنان، وإعادة الإعمار، بمسار طويل الأمد يتناول موقع سلاح "حزب الله" ودوره، بل وارتباط لبنان ككلّ بخريطة التحالفات الإقليمية والدولية.
من هذه الزاوية، يصبح اغتيال الطبطبائي، على أهميته وحساسيّته، جزءًا من لوحة أكبر، تُستخدَم فيها عمليات الاغتيال النوعية، والغارات المتكررة على البنية التحتية في الجنوب، والضغوط المالية والسياسية، كأدوات متكاملة لدفع لبنان إلى طاولة تفاوض غير معلنة، يكون عنوانها الظاهر وقف حرب الاستنزاف، لكن عنوانها العميق ربما إعادة رسم موقع لبنان على خريطة الإقليم.
في المقابل، لا يبدو أن لدى الداخل اللبناني، حتى الآن، رؤية موحدة لكيفية التعامل مع هذه الضغوط، في وقت تتكرّس حرب الاستنزاف يومًا بعد يوم كواقعٍ جديد، من دون أن تتحوّل إلى حرب شاملة، ومن دون أن تنجح حتى الآن في فتح باب تسوية واضحة المعالم، فهل ينجح اللبنانيون في صياغة موقف يحمي البلد من أن يكون فقط ساحة اختبار لرسائل الآخرين، بلا كلمةٍ له في قواعد اللعبة التي تُرسَم على أرضه، أم يكملون المسار نحو مرحلة أخرى من المجهول؟!.
كانت هذه تفاصيل خبر المبادرة المصرية تتجدّد في وجه "حرب الاستنزاف"... أيّ قواعد لعبة تُرسَم للبنان؟ لهذا اليوم نرجوا بأن نكون قد وفقنا بإعطائك التفاصيل والمعلومات الكاملة ولمتابعة جميع أخبارنا يمكنك الإشتراك في نظام التنبيهات او في احد أنظمتنا المختلفة لتزويدك بكل ما هو جديد.
كما تَجْدَرُ الأشاراة بأن الخبر الأصلي قد تم نشرة ومتواجد على النشرة (لبنان) وقد قام فريق التحرير في الخليج 365 بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر من مصدره الاساسي.
أخبار متعلقة :