كتبت: ياسمين عمرو في الاثنين 20 أكتوبر 2025 02:08 مساءً - 50 عاماً مرَّت على رحيلِ كوكبِ الشرق أم كلثوم، وما زال صوتُها يتردَّدُ في الذاكرةِ العربيَّةِ بوصفها أيقونةً خالدةً للغناء، وما زالت صورتُها محفورةً في وجدانِ الملايين. هي لم تكن مجرَّد فنَّانةٍ، بل كانت بحقٍّ رمزاً للهويَّة، وذاكرةَ وطنٍ لا تُمحى. وفي هذه الذكرى، أعادت وزارةُ الثقافةِ المصريَّةِ فتحَ نوافذِ الحنين على صوتٍ، ما زال حياً ًفي وجدانِ الأجيالِ مع معرضٍ بعنوان «صوت مصر». هناك بقصرِ عائشة فهمي في الزمالك، زرنا المعرض. لم تكن مجرَّد جولةٍ بين لوحاتٍ وتحفٍ، بل أشبه ما يكون برحلةٍ روحيَّةٍ إلى عالمِ أم كلثوم حيث تتنفَّسُ الجدرانُ عبقَ التاريخ. شعرنا بأن كوكبَ الشرق، تهمسُ بأسرارها، وتروي ملامحَ محطَّاتٍ، صنعت أسطورتها. منذ اللحظةِ الأولى لدخولنا القصر، كان الاستقبالُ مختلفاً، وقد رافقتنا ريم بهير، الاختصاصيَّةُ الفنيَّةُ وإحدى القائماتِ على إعدادِ المعرض، لتروي لنا كيف وُلِدَت فكرةُ جمعِ 28 فناناً مصرياً من أجيالٍ مختلفةٍ، ليعيدوا رسمَ صورة «الست». لم تكن اللوحاتُ محاكاةً فقط لصورتها كما رسخَّتها الصورُ الفوتوجرافيَّة، بل وإعادةَ إنتاجٍ أيضاً لأسطورةٍ، تتجدَّدُ مع الزمن.
المكان الذي يحكي الذكريات
اختيارُ قصرِ عائشة فهمي، لم يكن مصادفةً، فالمكانُ ذاته، بتاريخِه وعبقِه، يتقاطعُ مع حقبةِ أم كلثوم. القصرُ كانت تسكنه في بداياتِ القرنِ الماضي عائشة هانم فهمي، وكان قريباً من المكانِ الذي أقامت فيه أم كلثوم في أعوامها الأولى بالقاهرة. هو لم يكن فضاءً للعرضِ فحسب، بل كان جزءاً من الحكايةِ الكاملة، وكأنَّ كلَّ جدارٍ فيه يتنفَّسُ ذكرى.
وثيقة الميلاد.. وحيرة المؤرخين
من أبرزِ ما لفتنا في المعرضِ وثيقةُ ميلادِ أم كلثوم، هذا التاريخُ الذي لطالما اختلفَ عليه المؤرِّخون بين عامَي 1898 و1904، لتأتي الوثيقةُ، وتحسم الأمرَ: 4 مايو 1904. وقفنا أمامها طويلاً، وشعرنا بأنها ليست مجرَّد ورقةٍ رسميَّةٍ، وإنما مفتاحٌ لحياةٍ، بدأت في الريف، وانتهت كأسطورةٍ خالدةٍ.
الطفولة القاسية التي صنعت الأسطورة
في مذكَّراتها، كتبت عن والدتها التي علَّمتها التواضع، وعن أبيها الذي أخفى ضيقَ العيشِ كيلا تشعرَ بحرمانٍ. تقولُ أم كلثوم: «لم أسمع من أبي وأمي شكوى بصوتٍ مسموعٍ من الفقرِ الذي كنا نعيشه».
قساوةُ النشأة، صنعت منها صبراً وحباً للبسطاء، وهي قيمٌ، بقيت جزءاً من شخصيَّتها حتى آخر أيامها.
أول عشرة قروش
بدأت أم كلثوم بالغناءِ وهي في الثامنةِ من عمرها حيث كانت تؤدي الأناشيدَ أمام مأذونِ قريتها دون مقابلٍ، أمَّا أوَّلُ ظهورٍ لها أمامَ جمهورٍ صغيرٍ، فكان في ليلةِ زفافِ أحدِ أقاربها، وقد أسرت بصوتها كلَّ الحاضرين. في اليومِ التالي، تلقَّت دعوتها الأولى للغناءِ في حفلٍ آخر، وحصلت على أوَّلِ أجرٍ لها وقدره عشرةُ قروشٍ، لتبدأ منذ تلك اللحظةِ سلسلةُ العروضِ والحفلاتِ التي قادتها لاحقاً إلى مسيرةٍ فنيَّةٍ استثنائيَّةٍ.
لقد كانت تلك الحفلاتُ البدايةَ التي أخذتها من ريفِ الدقهليَّة إلى صخبِ القاهرة.
القاهرة.. الحلم الكبير
انتقالها إلى القاهرةِ، لم يكن سهلاً، فوالدها تردَّد، لكنْ الشيخ أبو العلا محمد أقنعه بأن «حبسَ هذه الموهبةِ في قريةٍ صغيرةٍ جريمةٌ». وفي مذكَّراتها، تحدَّثت عن «تحويشةِ العمر»، 15 جنيهاً ادَّخرتها من مصروفها، التي فقدتها في إحدى الحفلاتِ بالقاهرة، لكنَّها مع ذلك لم تستطع مقاومةَ نداءِ العاصمة.
بدايات الشهرة في العشرينيات
الإعلاناتُ القديمةُ لحفلاتها في القاهرة، كانت من أكثر المعروضاتِ التي لامستنا. هي كشفت لنا عن مشهدٍ ثقافي نابضٍ حيث غنَّت أم كلثوم إلى جانبِ عمالقةِ المسرحِ الكوميدي مثل نجيب الريحاني، وعلي الكسار. كان ذلك دليلاً على تكاملِ الفنون في تلك الحقبة، وعلى سرعةِ صعودها في قلبِ العاصمة.
يمكنك الاطلاع على ستة أفلام قدمت كوكب الشرق ممثلة بالسينما المصرية
"بدأت أم كلثوم بالغناء وهي في الثامنة من عمرها، وأول أجرٍ لها كان عشرة قروشٍ"
من مصر إلى الوطن العربي
المعرضُ، وثَّق رحلاتِ أم كلثوم خارجَ مصر في مراحلَ مبكِّرةٍ من عمرها. صورها في بيروت ودمشق وبغداد، كشفت كيف تجاوزَ صوتُها حدودَ النيل، ليصبحَ لسان أمَّةٍ.
كذلك خُصِّص جناحٌ لعلاقتها بالبلاطِ الملكي حيث كان الملك فاروق من أشدِّ المعجبين بصوتها، واعتمدَ عليها بوصفها صوتاً رسمياً في المناسبات. من بعده، نسجت علاقاتٍ مع رموزٍ وطنيَّةٍ وسياسيَّةٍ كبيرةٍ. حتى خلافها الشهيرُ مع عبدالحليم حافظ عامَ 1964، ثم صلحهما العاطفي حين قبَّلَ يدها في 1970، عُرِضَ بتفاصيلَ وصورٍ نادرةٍ.
أيقونة الموضة الكلاسيكية
الركنُ الخاصُّ بفساتينها، كان ساحراً أيضاً، فهي لم تكن مجرَّد قطعِ قماشٍ، بل شكَّلت فصلاً من سيرتها. فساتينُ، جمعت بين الأناقةِ والوقار. كانت ألوانُها المفضَّلةُ البنِّي، والأخضر، والمارون، والأسود، وتفاصيلُ التصاميمِ كانت شاهدةً على ذوقٍ، يميلُ إلى الرصانة.
ولم تغب في المكان إكسسوارتُها المفضَّلة، والجوانتي الأسود، ونظَّارتُها السوداءُ الشهيرةُ التي صارت علامةً مميَّزةً، ترافقُ صوتَها على المسرح.
صلاح طاهر وأم كلثوم
إحدى اللوحاتِ التي أسرتنا، كانت بريشةِ الفنَّانِ صلاح طاهر الذي عبَّر من قبل عن صعوبةِ رسمِ كوكبِ الشرق، وشعر كمَن «يحاولُ حبسَ الشمسِ في بقعةٍ» حين رسمها. كما وثَّقت الصورُ زياراته المتكرِّرةَ إلى بيتها، ليطلبَ منها ارتداءَ ألوانٍ معيَّنةٍ، وكانت أم كلثوم تطاوعه تماماً مثلما كانت تفعلُ مع الملحِّنين، وفي الوقتِ نفسه، تحاولُ أن تُدخِلَ تعديلاتٍ على العباراتِ الموسيقيَّة. وصلاح طاهر، هو «موسيقارُ الألوانِ في الفنِّ المصري الحديث». هكذا كانت أم كلثوم ملهمةً في الفنِّ كلِّه للموسيقيين كما التشكيليين.
الأوسمة والتكريمات
توزَّعت بين الأركانِ أوسمةٌ ونياشينُ، حصلت عليها خلال مسيرتها، منها نيشانُ الكمالِ من الملك فاروق عامَ 1944، ووسامُ الاستحقاقِ من الجمهوريَّةِ في 1960، ووسامُ الجمهوريَّةِ من الدرجةِ الأولى بعد انتصارِ أكتوبر. لم تكن أم كلثوم مجرَّد مغنيةٍ، بل كانت رمزاً وطنياً، إذ حملَ صوتها قضايا الوطن من تأميمِ قناةِ السويس إلى دعمِ المجهودِ الحربي.
الرحيل.. حين بكت الأمة
في إحدى القاعات، عُرِضَت صورُ جنازةِ أم كلثوم في 3 فبراير 1975. جموعٌ غفيرةٌ، تملأ شوارعَ القاهرة، ووجوهٌ باكيةٌ، وأصواتٌ حزينةٌ. شعرنا للحظةٍ بأننا نعيشُ ذلك اليوم، يومَ انطفأ الصوتُ الذي ملأ وجدان العرب. كان وقعُ رحيلها صادماً، ولا يزالُ إلى اليومِ يثيرُ الدهشةَ من حجمِ محبَّةِ الجماهيرِ لها.
غادرنا المعرضَ مثقلين بالعاطفة، كأنَّنا خرجنا من جلسةٍ خاصَّةٍ مع «الست»، جلست فيها لتروي لنا أسرارها: من الطفولةِ القاسيةِ، فمجدِ المسرحِ، وأناقتها، إلى لحظةِ الرحيل. أم كلثوم لم تكن فقط «صوتَ مصر»، بل كانت حكايةَ وطنٍ، وهويَّةً لا تموت.
يمكنك متابعة الموضوع على نسخة الخليج 365 الديجيتال من خلال هذا الرابط
أخبار متعلقة :