اليابان | في قلب فوكوشيما... قرية زراعية تصنع مستقبلًا من بين رماد الانكماش السكاني!

بعد أكثر من عقد على كارثة فوكوشيما النووية في 11 مارس/ آذار 2011، ما تزال قرية إيتاتي تكافح آثار الدمار؛ فقد تضاءل عدد سكانها وارتفعت نسبة كبار السن فيها بشكل ملحوظ. ومع ذلك، وسط هذا الواقع الصعب، بدأت تنبت بذور أمل جديدة — من خلال مشروع لإحياء زراعة نبات الإيغوما (أحد أنواع البريلا)، الذي لا يقتصر دوره على دعم سبل العيش، بل يمنح السكان المتبقين فرصة ثمينة لإعادة بناء روابطهم الاجتماعية واستعادة روح المجتمع.

انخفاض حاد في عدد السكان

تقع بلدة إيتاتى في شمال شرق محافظة فوكوشيما الجبلية. وتبعد 30-40 كيلومترًا عن محطة فوكوشيما دايئيتشي للطاقة النووية التابعة لشركة طوكيو للطاقة الكهربائية، والتي شهدت الحادث النووي المروع في مارس/ آذار 2011.

وفور وقوع الكارثة، أصدرت الحكومة أوامر إخلاء للسكان الذين يعيشون ضمن دائرة نصف قطرها 20 كيلومترًا من محطة الطاقة، وتدفقت أعداد كبيرة من النازحين من بلدتي فوتابا وأوكوما وبلديات أخرى مجاورة إلى إيتاتى. ولاحقًا، حملت الرياح المواد المشعة من المفاعل باتجاه الشمال الغربي، وتبين أن قرية إيتاتى تعاني من مستويات خطيرة من التلوث الإشعاعي.

ورغم بُعدها النسبي عن المفاعل، أجبرت هذه الظروف على إخلاء البلدة بأكملها. وصدر أمر الإخلاء بعد شهر تقريبًا من الكارثة، وظل ساريًا لما يقرب من ست سنوات، حتى نهاية مارس/ آذار 2017.

وقد مرت ثماني سنوات الآن منذ رفع أوامر الإخلاء، باستثناء بعض المناطق المحظورة التي لا تزال سارية المفعول، لكن القرية تغيرت بشكل كبير خلال هذه السنوات.

وقبل عام من الكارثة، وحتى نهاية مارس/ آذار 2010، بلغ عدد سكان قرية إيتاتى 6,584 نسمة، وفقًا لسجل السكان الأساسي. ورسميًا، انخفض عدد السكان الآن بنسبة تزيد قليلًا عن 30% ليصل إلى 4,400 نسمة. ويعكس هذا الرقم عدد الأشخاص الذين يحتفظون بسجلات إقامتهم الرسمية في القرية؛ ولكن في الواقع لا يسكنها حاليًا سوى 1,508 شخص، أي أقل من ربع عددهم قبل وقوع الكارثة.

ويحتفظ بعض الأشخاص بسجلات إقاماتهم الرسمية على أملٍ غامض بالعودة يومًا ما، بينما قد يفعل آخرون ذلك لمواصلة الاستفادة من تدابير دعم النازحين. حيث يحقّ للأشخاص الذين تم إجلاؤهم من البلديات الثلاث عشرة المتضررة من الحادث النووي الحصول على الخدمات الطبية والرعاية الاجتماعية والتعليمية وغيرها من الخدمات الحكومية في أماكن إقامتهم الجديدة دون الحاجة إلى تحديث بيانات إقاماتهم الرسمية.

لكن إيتاتى تواجه تحديات أخرى غير مجرد تناقص عدد سكانها، إذ ارتفعت نسبة كبار السن بشكل ملحوظ. في عام 2010، حيث كانت نسبة السكان البالغين من العمر 65 عامًا فأكثر حوالي 28,9٪، لكن هذه النسبة تضاعفت الآن لتصل إلى 61,5٪ (انظر الرسم البياني). وكان معظم العائدين من كبار السن، بينما لم يعد السكان السابقون ممن هم في سن العمل.

وقد وجد السكان السابقون ممن هم في سن العمل الذين انتقلوا إلى المناطق الحضرية فرصًا للعمل، واستقر أبناؤهم في مجتمعاتهم الجديدة، مما صعّب عليهم العودة إلى قرية انهارت بنيتها التحتية. ومن المفهوم أنهم مترددون في العودة مهما بلغ حبهم لبلدة إيتاتى، نظرًا للصعوبات وخيارات التعليم المحدودة.

التطلع إلى حصاد جديد كأمل للمضي قدمًا

وتستوفي القرية معايير ”المجتمع المهدد بالانقراض“ – ”غينكاي شوراكو“، والتي تعني حرفيًا ”مستوطنة على حافة الاندثار“ - وأصبح الحفاظ على رفاهية السكان العائدين مسألة أساسية.

وقد استقر معظم العائدين في منازلهم الأصلية، آملين في استئناف مهنهم السابقة، كالزراعة. وأحد هؤلاء الرجال، وهو رجل في السبعينيات من عمره، أُخلي إلى مساكن مؤقتة في مدينة داتيه بمحافظة فوكوشيما، يتذكر تجربته قائلاً: ”كنت محاطًا بأشخاص لا أعرفهم. كنت دائمًا أشعر بالقلق، وأشعر بنظرات الناس إليّ. لم أكن أستطيع حتى شواء السمك - كنت أخشى أن تُزعج الرائحة الآخرين. الحياة في قريتنا هي الأفضل“. وتقول امرأة قضت فترة في مأوى للطوارئ مُجهز مسبقًا: ”كان الأمر صعبًا للغاية، الاستيقاظ كل يوم دون أن أفعل شيئًا“. وبالنسبة للقرويين، فالزراعة أكثر من مجرد وسيلة للرزق. إنها تمنحهم الشعور بالرضا، وهي جزء من هويتهم.

والزراعة هي أساس المجتمع. ففي الماضي، كان السكان يتعاونون في زراعة الأرز وحصاده، وهو تقليدٌ ربطهم ببعضهم البعض لفترات طويلة.


إعادة زرع شتلات الـ ”إيغوما“. (© يوكيتومو واتارو)

في أبريل/ نيسان 2020، شكّلت الأسر الزراعية في حي ”أوكوبو-يوسوتشي“ الإداري في بلدة إيتاتى جمعية ”يوي نوئين“ الزراعية، سعيًا للحفاظ على مجتمعها وشعور أبنائها بالهدف. وقد انضممتُ إلى إحدى المجموعات الهادفة لتعافي المجتمع بدعوة من ”ناغاشو ماسو“ (78 عامًا)، رئيس الحي وممثل الجمعية التعاونية، والذي التقيتُ به قبل انتقالي إلى بلدة إيتاتى أثناء معاينة عمليات إعادة الإعمار بعد الكارثة في المنطقة.

وتزرع الجمعية بشكل رئيسي نبات الـ ”إيغوما“ (نبات البيريلا الزيتي) في أرض مساحتها هكتاران تقريبًا. والـ إيغوما محصول سنوي قريب من نوع البيريلا المعروف شعبيًا باسم شيسو. وتُزرع الشتلات في مايو/ آيار، ثم تُنقل إلى الحقول في أواخر يونيو/ حزيران. ويُنتج النبات سنابل تزهر عشرات الأزهار البيضاء في أواخر الصيف. وعلى الرغم من سهولة العناية بالـ إيغوما نسبيًا، إلا أن إعادة زراعتها الأولية، بالإضافة إلى الحصاد والدَّرس (استخراج البذور من النبات) في أواخر أكتوبر/ تشرين الأول، تتطلب كثيرًا من الجهد.

ومن أجل عملية الدَّرس، تُفرش مفارش بلاستيكية زرقاء في الحقل، وتُدقّ السنابل المقطوفة لإخراج البذور. ثم تُزال البقايا بواسطة غربال. وتُنقل البذور إلى الداخل، وتُغسل وتُجفف، وتُزال الشوائب بالملاقط. وأخيرًا، يُستخرج الزيت ويُعبأ في زجاجات.


ˮناغاشو“ (على اليمين) يدًّرس بذور نبات الـ إيغوما المحصودة. حيث تُضرب السنابل على لوح خشبي، فتسقط البذور على الغطاء البلاستيكي. (© يوكيتومو واتارو)

وتُقلل جمعية ˮيوي نوئين“ من استخدام الآلات الزراعية والمواد الكيميائية الزراعية، وتُعالَج البذور المحصودة يدويًا. ورغم إمكانية تقليل متطلبات العمالة باستخدام الآلات، إلا أن الأعضاء هنا يتبنون عمدًا تقنياتٍ تُشرك عددًا أكبر من السكان.

ويوضح ناغاشو قائلًا: ˮإنّ إنتاج نبات الـ إيغوما ليس أمرًا شاقًا، ولكنه يتطلب وقتًا وجهدًا. ونحن نرى ذلك الأمر مفيدًا“. حيث يمكن للسكان الدردشة وتبادل أطراف الحديث خلال فترات راحة العمل. ويقول أحد العمال: ˮلقد كبُرت حفيدتي وأصبحت تعمل الآن“. فيجيب عليه زميله: ˮكانت لا تزال في المدرسة الابتدائية عندما تم إخلاؤكم“. ويعلق آخر: ˮكما تعلم، كان هذا الحقل حقل أرز، لكنه نما بالأعشاب الضارة لأنه لم يتبقَّ أحدٌ للعناية به“.


المزارعون في جمعية ˮيوي نوئين“ يتحدثون أثناء استراحتهم. (© يوكيتومو واتارو)

ولجز الأعشاب وغيرها من المهام الشاقة، يجتمع ما بين 10 إلى 20 شخصًا، من ضمنهم أشخاصًا لا يزالون يعيشون بعيدًا عن بلدة إيتاتى، ويتبادلون الأخبار والمستجدات عن أصدقائهم الآخرين أثناء عملهم. ويشارك طلاب الجامعات وغيرهم من الداعمين في إعادة الزراعة والحصاد، مما يزيد من عدد السكان المرتبطين بالمنطقة، أي غير المقيمين الدائمين الذين يحتفظون بعلاقات مستمرة معها.

الوظائف الاجتماعية للزراعة

يُستخدم زيت الـ ˮإيغوما“ غالبًا لإنتاج زيت صالح للأكل غني بأحماض أوميغا 3 الدهنية غير المشبعة (ALA وEPA وDHA)، وقد لاقى رواجًا كبيرًا كغذاء صحي في السنوات الأخيرة. ويُتلف تسخين الزيت العناصر الغذائية الأساسية، لذا يُستهلك عادةً نيئًا في تتبيلة السلطة، أو مع التوفو، أو في حساء الميسو، وعلى سبيل المثال. يُستخدم منذ فترة طويلة في محافظة فوكوشيما، حيث يُطلق عليه اسم ˮجونين“ (والذي يُشير إلى معنى ˮعشر سنوات“ باليابانية). ويقول السكان المحليون إن الاسم نشأ من الاعتقاد بأن تناوله يُطيل العمر عشر سنوات. ويُعبأ زيت الـ ˮإيغوما“ من جمعية ˮيوي نوئين“ للبيع في محطات الوقود الريفية على جوانب الطرق. واسم المنتج مكتوب بأحرف تُمثل تلاعبًا بالألفاظ، ويُترجم تقريبًا إلى ˮإيغوما السعيدة: عش عشر سنوات أطول“.

ويُباع بسعر 1,250 ينًا يابانيًا لعبوة 45 غرامًا، و2,500 ينًا يابانيًا لعبوة 100 غرام. وتُباع بذور إيغوما أيضًا بسعر 400 ين ياباني لكمية 100 غرام. ويمكن تحميص البذور قليلًا، وطحنها مثل السمسم، ثم رشها على كرات الأرز، أو خلطها مع صلصة الصويا والسكر لتحضير نكهة مميزة لـ كعكات الأرز موتشي.

وتُباع المنتجات أيضًا عبر موقع جمعية ˮيوي نوئين“ الإلكتروني. وقد تلقت الجمعية مؤخرًا طلبًا بكميات كبيرة من جمعية تعاونية استهلاكية أخرى خارج المحافظة. كما تسعى ˮيوي نوئين“ لتسجيل منتجاتها كمكافآت لدافعي الضرائب لمنطقتهم ضمن برنامج الحكومة المعروف باسم ˮفوروساتو نوزي“ (ضريبة مسقط الرأس).


منتجات الـ إيغوما من جمعية يوي نوئين (على اليسار). جناح جمعية يوي نوئين في إحدى الفعاليات التي أقيمت في يوكوهاما في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023. (© يوكيتومو واتارو)

وفي أواخر العام الماضي، شاركتُ في دوريات محلية لرفع الوعي بمكافحة الحرائق والجرائم. وذكر أحد رجال الإطفاء المدني كان يرافقنا أن العديد من كبار السن فقدوا أزواجهم ويعيشون بمفردهم. وفي الليل، الأنوار تكون مطفأة في حوالي نصف المنازل. وفي كثير من الحالات، لا تُهجر هذه المنازل، بل يعيش أصحابها الآن في أماكن أخرى، ويعودون فقط لإزالة الأعشاب الضارة والقيام بعمليات التنظيف.

وهناك أيضًا العديد من الحقول المُهملة، لأن المزارعين كبار في السن لا يستطيعون تشغيل الآلات الزراعية الثقيلة. ولكن تتولى إحدى شركات التنمية، بتمويل من الجمعية التعاونية الزراعية والقرية، رعاية بعض الحقول لزراعة الأرز المستخدم كعلف للماشية، لكنها لا تستطيع إدارة جميع الأراضي.

ومن هذا المنطلق، يُعدّ زرع نبات الـ ˮإيغوما“ الذي يخفف بدوره العبء عن كبار السن، خيارًا فعّالًا يمكنه تسخير مزايا الزراعة لدعم هذه المجتمعات المهددة بالانقراض. ومن منظور النظريات الزراعية، فإن هذا النوع من الزراعة يقدّم عناصر مهمة غالبًا ما تُتجاهل في النقاشات المتعلقة بالنظريات الصناعية — مثل تعزيز الوظائف الاجتماعية العرضية للزراعة، كدعم روح المجتمع ومنح كبار السن هدفًا يعيشون من أجله — وهي جميعها عناصر تؤدي إلى تحقيق ˮالتعافي الإنساني“ اللازم في أعقاب الكوارث.

وقبل الكارثة النووية، روّجت بلدة إيتاتى لمفهومٍ أطلقت عليه اسم ˮmadei life“ ˮمادي لايف“ أو ˮالعيش بتأني“. وكلمة ˮمادي“ باللهجة المحلية تعني ˮالحذر“. حيث أن القيام بالأمور بحذرٍ بدلًا من إعطاء الأولوية للتكلفة وكفاءة الوقت هو شكلٌ من أشكال ˮالعيش بتأني“ الذي يُقدّر الانسجام بين نمط الحياة التقليدي والطبيعة.

وقد أثار زلزال شبه جزيرة نوتو عام 2024 قضايا مماثلة - فعندما تضرب كارثة كبرى مناطق تعاني أصلًا من قلة السكان، يسارع الناس إلى اقتراح هجرة كبار السن من ˮمجتمعاتهم المنكوبة“ والانتقال إلى المناطق الحضرية. وبينما قد يبدو هذا منطقيًا من الناحية الإدارية أو الاقتصادية، إلا أن الأمر محل جدل حول ما إذا كان ذلك أفضل بالفعل للأشخاص المعنيين.

ويُلقي الغموض بظلاله على آفاق أنشطة جمعية يوي نوئين الزراعية على المدى الطويل، نظرًا للتركيبة العمرية لأعضائها. وستكون هناك حاجة لبذل جهود لتعزيز الربحية إذا ما أُريد للجيل الشاب أن يتولى زمام الأمور. ولكن مع اقتراب موسم الحصاد هذا العام، هناك أمر واحد مؤكد: سيواصل كبار السن الذين يجتمعون في جمعية يوي نوئين الاستمتاع بالعمل بنشاط والعيش في مجتمعهم في الوقت الحالي.

(النص الأصلي نُشر باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية. صورة الموضوع: أعضاء جمعية يوي نوئين يزرعون شتلات الـ إيغوما في بلدة إيتاتى بمحافظة فوكوشيما. © يوكيتومو واتارو)

كانت هذه تفاصيل خبر اليابان | في قلب فوكوشيما... قرية زراعية تصنع مستقبلًا من بين رماد الانكماش السكاني! لهذا اليوم نرجوا بأن نكون قد وفقنا بإعطائك التفاصيل والمعلومات الكاملة ولمتابعة جميع أخبارنا يمكنك الإشتراك في نظام التنبيهات او في احد أنظمتنا المختلفة لتزويدك بكل ما هو جديد.

كما تَجْدَرُ الأشاراة بأن الخبر الأصلي قد تم نشرة ومتواجد على نيبون وقد قام فريق التحرير في الخليج 365 بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر من مصدره الاساسي.