جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية تنظم ندوة «القرآن الكريم: دراسات في المنهج والسياق»

ابوظبي - سيف اليزيد - أبوظبي (الاتحاد) 

انعقدت ندوة «القرآن الكريم: دراسات في المنهج والسياق»، والتي نظّمتها جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية في مقر الجامعة بأبوظبي، بمشاركة نخبة من العلماء والباحثين المتخصصين في الدراسات القرآنية، ليعيدوا طرح السؤال المنهجي حول كيف يُفهم القرآن في ضوء مناهجه، ولغته، وسياقاته، ومقاصده، حيث تلاقت الرؤية الفقهية والمقاصدية والإنسانية في محاولةٍ لاستئناف العقل القرآني في زمنٍ يشتدّ فيه الالتباس على المعنى.


افتُتحت أعمال الندوة بكلمة ألقاها معالي العلامة الشيخ عبدالله بن بيه، رئيس المجلس العلمي الأعلى للجامعة، قامت على خمسة محاور رئيسة هي: المناهج التفسيرية، ودلالات اللغة ومزالق التأويل، والتأويل والتكفير، والناسخ والمنسوخ، والسياق، لتكون بناءً فكرياً محكماً لأسس القراءة القرآنية، أكّد من خلالها أن تنوّع مناهج التفسير في التاريخ الإسلامي لا يعني تضاداً، بل تنوّعاً في المقاصد، وأن المطلوب هو الجمع بين هذه المناهج في إطارٍ علمي يربط الفهم بالمقاصد. 

ثم تحدّث عن اللغة بوصفها مفتاح التفسير وشرط الفهم، موضحاً أن الخطأ في دلالات الألفاظ هو من أكبر أسباب الانحراف في التأويل، وأن العربية بخصائصها البيانية تمثّل الوعاء الذي يحمل المعنى القرآني في صفائه الأول، وانتقل إلى التأويل فبيّن أن سوء استخدامه أفضى إلى ثقافة التكفير، حين فُصل النص عن سياقه أو حُمِل على ظنون الناس وأهوائهم، ودعا إلى تأويلٍ منضبطٍ بالعلم واللغة والنية المقاصدية. 

وفي حديثه عن الناسخ والمنسوخ، أوضح أن النسخ في القرآن واقعٌ بقدرٍ محدود، وأنه لا يعني نقض الأحكام أو تبدّل الإرادة الإلهية، بل تدرّج التشريع بحكمةٍ تراعي حال الأمة وتطورها، فالحكم يُرفع لحكمة ويُبدل لحكمةٍ أرجح، تحقيقاً لمصالح العباد. واختتم كلمته بالتأكيد على مركزية السياق في فهم النص، مبيناً أن المعاني لا تُدرك مفصولةً عن مواقعها وأنّ الخطاب القرآني وحدةٌ متماسكة من اللفظ والمقام والغاية، وأن إهمال السياق سببٌ لكثيرٍ من الفهوم الخاطئة في التاريخ. 

بعد ذلك انطلقت أعمال الجلسة الأولى حول محور «مناهج دراسة القرآن الكريم، والتي افتتحها الدكتور مصطفى السليمي، أستاذ التعليم العالي بالمغرب، بورقة بعنوان «المناهج القديمة في تفسير القرآن الكريم»، عرض فيها تحليلاً تاريخياً لمسار التفسير منذ مرحلة التنزيل حتى عصر التدوين، مبرزاً كيف تشكّل هذا العلم عبر تفاعل النقل والعقل واللغة. وأوضح أن تلك المرحلة أرست قواعد علم التفسير، بما ضمّته من منهجية دقيقة في التعامل مع اللغة والسياق والقراءات والأثر، مؤكداً أن المنهج القديم لا يمكن تجاوزه في أي مشروع معاصر، لأنه يمثل المرجعية التأسيسية لكل القراءات اللاحقة. كما ناقش تمايز المدارس التفسيرية الكبرى، موضحاً أن هذا التنوع لم يكن انقساماً، بل تطوراً طبيعياً في أدوات الفهم.

أما مداخلة الدكتور مولاي أحمد صابر - كاتب وباحث مغربي – فكانت تحت عنوان «المناهج المعاصرة في قراءة القرآن الكريم: الفكرة والسياق وآفاق التجاوز»، تناولت التحولات الفكرية التي عرفها علم التفسير منذ النهضة الحديثة، ثم تطرّقت إلى القراءات الحداثية التي ظهرت في أواخر القرن العشرين، كما أشارت إلى ضرورة العودة إلى قراءة القرآن قراءة داخلية أخلاقية وإنسانية، تنطلق من روحه الكونية في الرحمة والتعارف، موصياً بإنشاء مركز علمي يُعنى بالدراسات القرآنية المقاصدية والأخلاقية.

واختتمت أعمال المحور الأول بمداخلة الدكتور بسام الجمل، عضو الهيئة التدريسية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، والتي جاءت تحت عنوان «القراءات الغربية للقرآن الكريم: مقاربة تفهمية نقدية»، تناول فيها تطور الدراسات القرآنية في الغرب، والتي تجاوزت البحث التاريخي في مصادر النص إلى تحليل آليات الخطاب القرآني بوصفه بناءً لغوياً وثقافياً، وانتقد النتائج التي توقفت عند البنية الشكلية دون النفاذ إلى المعنى الإيماني، موضحاً أن هذه المناهج على الرغم من أهميتها اللغوية تظل قاصرة عن استيعاب البعد الروحي للقرآن الكريم. ودعا إلى الإفادة منها في تطوير أدوات القراءة العربية، دون إنكار خصوصية النص القرآني بوصفه وحياً إلهياً لا وثيقة لغوية.

قضايا إشكالية في فهم القرآن الكريم  
أما المحور الثاني، والذي جاء تحت عنوان «قضايا إشكالية في فهم القرآن الكريم»، فقد بدأ بورقة علمية ألقاها الدكتور خليفة مبارك الظاهري تحت عنوان «مقولة الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم»، تناول فيها مفهوم النسخ من زاوية مقاصدية وسياقية، مبيِّناً أنه من أكثر المفاهيم التي أصابها الخلط في التراث التفسيري. وأوضح أن النسخ في جوهره تدرج تشريعي وتربوي، يعكس مرونة الخطاب القرآني في مراعاة التحول الاجتماعي والتكليف الإنساني، وانتقد التوسع القديم الذي جعل مئات الآيات منسوخة دون دليل، ودعا إلى إعادة قراءة هذا المفهوم في ضوء المقاصد الكبرى للشريعة، كما تناول العلاقة بين النسخ والسياق، مؤكّداً أن أي حكم أو آية لا يمكن فهمها إلا في موقعها من البناء الكلي للقرآن. فالسياق - في رأيه - ليس مجرد ترتيب لفظي، بل نظام معرفي يربط النص بمقاصده وبظروف نزوله، وأشار إلى أن هذه الرؤية القرآنية تتجسّد في الواقع الإماراتي من خلال التجارب التشريعية التي تُعلي من قيمة الكرامة الإنسانية وتوازن بين العدل والإحسان، في انسجامٍ مع فلسفة النسخ القرآني القائمة على التيسير والرحمة. 

وفي الورقة التي حملت عنوان «القرآن والآخر: علاقات التعارف والسلم والامتداد الدولي»، قدّم الدكتور عبدالرزاق وورقية، عضو الهيئة التدريسية بالجامعة، قراءة معمّقة لمفهوم العلاقة بالآخر في ضوء المقاصد الكلية، مبيناً أن القرآن يرسّخ مبدأ التعارف بوصفه أصلاً في الاجتماع الإنساني، وأنّ ما يُفهم من آيات القتال يجب وضعه في سياقه الدفاعي، لا في إطار الصراع العقدي. كما عرض تحليلاً للمفاهيم القرآنية الكبرى ورأى أنها تشكّل منظومةً قيمية غير قابلة للنسخ، لأنها تعبّر عن الثابت الأخلاقي في الرسالة الإلهية. كما فرّق بين المناط النبوي المقصور الذي يرتبط بظروف النبوة في إدارة شؤون الدولة الأولى، والمناط الإنساني الممتد الذي يخاطب جميع الناس في أفق التعارف والسلم. وأوضح أن هذا التفريق يفتح آفاقاً جديدة في فقه العلاقات الدولية في الإسلام، تجعل من السلام مقصداً أصيلاً لا استثناءً ظرفياً.

واختتم الدكتور نزار صميدة المحور الثاني بورقة بعنوان «مقولة إعجاز القرآن الكريم»، تناول فيها تاريخ الفكرة وتطورها من الإعجاز البلاغي إلى الإعجاز العلمي والعددي، مبرزاً أن هذه التحولات أفرغت المفهوم من عمقه المعنوي، لأن الإعجاز الحقيقي في القرآن يكمن في قدرته المستمرة على إنتاج المعنى وبناء الوعي. وأوضح أن الاتجاهات العلمية والعددية حوّلت القرآن إلى وثيقة تجريبية أو حسابية، بينما هو خطاب هداية مفتوح على الزمن والإنسان. ودعا إلى استعادة مفهوم الإعجاز في بُعده القيمي والإنساني، بوصفه قدرة النص على تغيير الإنسان وبناء منظومته الأخلاقية والمعرفية، لا في إثبات الحقائق الكونية أو العلمية. ورأى أن القرآن ما زال معجزاً لأنه يظلّ يُنتج في كل عصر معنى جديداً يوازي تطور الوعي الإنساني، ويقود البشرية نحو غايات العدل والسلام.

القراءة المعاصرة في فهم القرآن الكريم 
أما المحور الثالث والأخير، فقد خُصص للقراءة المعاصرة في فهم القرآن الكريم، وانطلق بورقة فكرية تحت عنوان «القرآن الكريم والرؤية الكونية: الصورة الكبيرة» قدمها الدكتور عدنان إبراهيم، مستشار مدير جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، بيّن فيها أن القرآن لا يقدم معارف جزئية، بل رؤية شاملة للعالم تجمع بين ثلاثة أركان كبرى، هي الله والإنسان والكون، وأنّ العلاقة بين هذه الأركان تشكّل جوهر الوعي القرآني بالوجود. وبيّن أن البراهين القرآنية على وجود براهين وجودية وشهودية تجعل الوجود نفسه دليلاً على الخالق، مستدلاً بالآيات التي تصف حضور الله في كل شيء. كما تناول فكرة الكون في القرآن باعتباره نظاماً مفتوحاً على الغيب، يخضع لسنن ثابتة، لكنه في الوقت ذاته مشحونٌ بالمعنى، بحيث تصبح قراءة الكون نوعاً من قراءة الوحي. أما الإنسان في هذا النسق فهو المخلوق العاقل المكلف بالمعرفة والتعمير، الذي يجمع بين الوعي بالسماء والالتزام بالأرض.

واختتمت أعمال الندوة بورقة علمية قدمها الدكتور رضوان السيد، عميد كلية الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، تحت عنوان «القراءة الأخلاقية للقرآن الكريم: من القيم إلى رؤية العالم»، قدم فيها مشروعاً متكاملاً لبناء منظومة أخلاقية قرآنية تستعيد مركزية القيم في فهم النص الديني. أوضح في مستهل كلمته أن الفكر الإسلامي القديم لم يُنتج نظرية أخلاقية قرآنية خالصة، وبيّن أن القرآن الكريم يتضمّن شبكة كثيفة من المفاهيم الأخلاقية التي تُشكّل أسس نظامٍ قيميٍّ عالمي، يقوم على الرحمة والمساواة والكرامة والعدل. واستخلص في دراسته مجموعة من القيم الكبرى لتُكوّن المنظومة الأخلاقية القرآنية وتمثّل أساس الأخلاق القرآنية التي تتجاوز حدود الدين لتشمل الإنسانية كلها، لأن الخطاب الإلهي موجّه إلى الإنسان بما هو إنسان.

واختتم الدكتور رضوان السيد أعمال الندوة بالتأكيد على أهمية القراءة الأخلاقية للقرآن في الحاضر المعاصر، مبيّناً أن التحدي الذي يواجه المسلمين اليوم لم يعد عقدياً بقدر ما هو أخلاقي، وأنّ العالم لم يعد يحاسبهم على دينهم، بل على سلوكهم، وأن غياب البعد الأخلاقي في الوعي الإسلامي أضعف صورة الإسلام في العالم، واعتبر أن العودة إلى الرؤية القرآنية للعالم كفيلة بأن تضع المسلمين من جديد في قلب الحضارة الإنسانية، لأنهم حين يستعيدون مركز الأخلاق في دينهم، يستعيدون معنى وجودهم في العالم.

أخبار متعلقة :