خبير جنائي لبي بي سي: جنديان من قوات المارينز مسؤولان عن مقتل عائلة عراقية خلال الحرب

الرياص - اسماء السيد - "هذه هي الغرفة التي قُتل بداخلها جميع أفراد أسرتي"، تقول صفا يونس.

ثقوب الرصاص تملأ الباب الأمامي للمنزل في مدينة حديثة العراقية، حيث نشأت صفا. في غرفة النوم الخلفية، يغطي مفرش ملوّن السرير حيث أطلقت النار على عائلتها.

هنا اختبأت مع أشقائها وشقيقاتها الخمس ووالدتها وخالتها في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2005، عندما اقتحمت قوات المارينز (مشاة البحرية الأمريكية) منزلهم وفتحت النار، فقتلت الجميع ما عدا صفا. والدها قُتل أيضاً حين فتح الباب الأمامي.

الآن بعد مرور 20 عاماً، يكشف تحقيق لفريق عين بي بي سي BBC Eye، عن أدّلة تشير إلى توّرط عنصرين من المارينز، لم يخضعا إطلاقاً للمحاكمة على مقتل عائلة صفا، وفق خبير جنائي.

تشير الأدلة – المتمثّلة أساساً في التصريحات والشهادات المقدَّمة عقب عمليات القتل – إلى وجود شكوك حول التحقيق الأمريكي في ما جرى ذلك اليوم، وتطرح تساؤلات جوهرية بشأن آليات مساءلة القوات المسلحة الأمريكية.

مقتل عائلة صفا كان جزءاً من ما عرف بـ"مجزرة حديثة"، حين قتلت قوات المارينز الأمريكية 24 مدنياً عراقياً، من بينهم أربع نساء وستة أطفال.

أثارت هذه الحادثة أطول تحقيق أمريكي في جرائم الحرب خلال حرب العراق، ولكن لم يُدن أحد في جرائم القتل.

BBC
المنزل الذي قتلت بداخله عائلة صفا في مدينة حديثة في العراق عام 2005

قالت قوات المارينز إنها كانت ترد على إطلاق النار بعد انفجار عبوة على جانب الطريق، أدت إلى قتل أحد عناصرها وجرح اثنين آخرين.

لكن صفاء، التي كانت تبلغ 13 عاماً آنذاك، قالت للخدمة العالمية: "لم نُتَّهَم بأي شيء. ولم تكن لدينا حتى أي أسلحة في المنزل".

نجت بعد ما تظاهرت بالموت بين جثث أشقائها وشقيقاتها الصغيرة – أصغرهم كانت في الثالثة من العمر. قالت صفا: "كنت الناجية الوحيدة بين جميع أفراد عائلتي".

وُجّهت في البداية تهم بالقتل إلى أربعة من عناصر مشاة البحرية الأمريكية، لكنهم قدّموا روايات متناقضة حول الأحداث. ومع مرور الوقت، أسقط المدّعون العسكريون الأمريكيون التهم عن ثلاثة منهم، مانحين إياهم حصانة من أي إجراء قانوني لاحق.

وبذلك أصبح قائد الفصيل، الرقيب فرانك ووتريش، الوحيد الذي مثل أمام المحكمة في عام 2012.

Michael Epstein
في هذه الصورة، المأخوذة من لقطات لم تُبث من قبل، يظهر هومبيرتو ميندوزا (راكعاً) وهو يوضح ما حدث

في تسجيل فيديو سجل في جلسة ما قبل المحاكمة لفرانك ووتريتش، لم يُبثّ من قبل، يتم استجواب أصغر أعضاء فرقة المارينز سناً، هومبرتو مندوزا الذي يعيد تمثيل الأحداث داخل منزل صفا.

أقر ميندوزا – الذي كان جندياً في ذلك الوقت ولم تُوجَّه إليه أي تهمة – بقتل والد صفاء عندما فتح باب المنزل الأمامي أمام قوات المارينز.

يسأله المحامي "هل رأيت يديه؟ يجيب مندوزا "نعم سيدي" ويؤكد أنّ والد صفا لم يكن مسلحاً. يسأل المحامي "لكنك أطلقت النار عليه في كل الأحوال". يجيب مندوزا "نعم سيدي".

في تصاريحه الرسمية، زعم مندوزا في البداية أنه بعد أن دخل المنزل، فتح باب الغرفة حيث كانت صفا وعائلتها، لكنه حين رأى نساء وأطفالاً فقط، فلم يدخل وأغلق الباب.

غير أن تسجيلاً صوتياً مكتشفاً حديثاً من محاكمة ووتريش يكشف رواية مختلفة لميندوزا، إذ يقول إنه تقدّم نحو 8 أقدام (2.4 متر) داخل غرفة النوم.

يقول الخبير الجنائي مايكل مالوني إنّ ذلك مهمّ للغاية. أرسلته خدمة التحقيقات الجنائية للقوات البحرية إلى حديثة عام 2006 للتحقيق في أعمال القتل وقد قام بفحص الغرفة التي قتل بداخلها أفراد عائلة صفا.

BBC
صفا داخل غرفة النوم حيث قتل أفراد عائلتها تشرح أين اختبأت وتظاهرت بالموت

استنتج مالوني من خلال الصور التي التقطتها قوات المارينز في وقت ارتكاب أعمال القتل، أنّ عنصرين من المارينز دخلا إلى الغرفة وأطلقا النار على النساء والأطفال.

عندما إستمع مالوني للتسجيل الصوتي الذي يقول فيه مندوزا إنه دخل إلى الغرفة قال مالوني: "هذا أمرٌ مذهل بالنسبة لي، ما نستمع إليه، ولم أسمع هذا من قبل".

قال إنّ التسجيل يظهر أنّ مندوزا يضع نفسه في الموقع الذي إستنتج مالوني أن مطلق النار الأول كان يقف فيه، عند أسفل السرير.

"إذا سألتني إن كان هذا اعترافاً من نوع ما، فسأقول إن مندوزا اعترف بكل شيء باستثناء إطلاق النار".

أدلت صفا بإفادة مصوّرة أمام المحققين العسكريين عام 2006، لكنها لم تعرض أمام المحكمة. في التسجيل تصف صفا كيف فتح أحد عناصر المارينز الباب ورمى قنبلة يدوية لم تنفجر، وتقول إنّ الرجل ذاته دخل إلى الغرفة وأطلق النار على عائلتها. مندوزا هو العنصر الوحيد من المارينز الذي قال إنه فتح الباب.

US Marine Corps
صفا يونس تدلي بشهادتها حين كانت تبلغ من العمر 14 عاماً

واعترف عنصر آخر من قوات المارينز يدعى العريف تايتوم، بمشاركته في إطلاق النار. لكنه قال إنه تبع قائد الفرقة ووتريتش إلى داخل الغرفة، وزعم في البداية أنه لم يعلم بوجود نساء وأطفال داخل الغرفة بسبب الرؤية السيئة.

لكن تايتوم قدّم رواية مختلفة في ثلاث إفادات أخرى حصلت عليها بي بي سي.

قال تايتوم لخدمة التحقيقات الجنائية للقوات البحرية عام 2006: "رأيت أطفالاً راكعين في الغرفة. لا أتذكر العدد بالتحديد، فقط أتذكر أنه كان عدداً كبيراً. أنا مدرّب على إطلاق رصاصتين في الصدر ورصاصتين في الرأس وطبّقت ما تدربت عليه".

بعد مرور شهر قال إنه "كان قادراً على تحديد الأشخاص في الغرفة على أنهم نساء وأطفال قبل إطلاق النار عليهم".

وبعد ذلك بأسبوع قال "هنا رأيت الطفل الذي أطلقت النار عليه. مع علمي بأنه طفل، فإنني أطلقت النار عليه". وصف الطفل بأنه كان يرتدي قميصاً أبيض واقفاً على السرير وشعره قصير.

زعم محامو الدفاع عن تاتوم أن هذه الإفادات اللاحقة قد تم الحصول عليها تحت الإكراه. وفي مارس/آذار 2008، أُسقطت التهم الموجهة إلى تاتوم، وتم تجاهل تلك الإفادات في محاكمة ووتريش.

الخبير الجنائي مايكل مالوني قال إنّ إفادتي تايتوم ومندوزا تشير إلى أنهما كانا العنصران من المارينز اللذان أطلقا النار على عائلة صفا. يعتقد أن مندوزا دخل غرفة النوم أولاً وتبعه تايتوم "مطلقاً النار عبر أعلى السرير".

وجّهنا هذه الاتهامات لمندوزا وتايتوم. لم يجب مندوزا. سبق وأنّ أقرّ بإطلاق النار على والد صفا، لكنه قال إنه كان يتبع الأوامر. ولم توجّه إليه أي تهمة.

وقال تايتوم عبر محاميه إنه يريد وضح أحداث حديثة خلفه. لم يسحب إفادته بأنه كان أحد مطلقي النار في منزل صفا.

Michael Epstein
فرانك ووتريتش قائد الفرقة كان الوحيد الذي خضع للمحاكمة بتهمة القتل لكن التهم أسقطت بعد أن وافق على صفقة الإقرار بالذنب

قال مالوني لبي بي سي إنّ الإدعاء "أراد أن يكون ووتريتش هو مطلق النار الرئيسي" . لكن قبل أن يقدم مالوني شهادته، انتهت محاكمة ووتريتش بصفقة إقرار بالذنب.

أصرّ ووتريتش على عدم تذكّره ماذا حدث في منزل صفا، ووافق على صفقة الإقرار بالذنب في تهمة واحدة هي الأهمال أثناء الواجب، وهي تهمة لا تتعلق بأي تورط مباشر في أعمال القتل.

قال محامي ووتريتش العسكري هيثم فرج وهو جندي سابق في قوات المارينز إنّ العقوبة كانت "بمثابة صفعة على المعصم...يشبه الأمر فرض مخالفة سرعة".

نيل باكيت، رئيس فريق الدفاع الخاص بووتريتش، قال إنّ عملية التحقيق والملاحقة القضائية بكاملها ضد موكّله كانت "فاشلة".

وأضاف قائلاً إنّ "الإدعاء، بمنحه الحصانة لجميع الشهود ورفضه جميع التُهم الموجهة إليهم... جعل نفسه عاجزاً عن تحقيق العدالة في هذه القضية".

وأقرّ فرج بأن الإجراءات شابها خلل عميق.

وقال لبي بي سي "لقد أعطت الحكومة الحصانة لأشخاص كي يأتوا ويكذبوا، وهكذا أساؤوا استخدام الإجراءات القانونية".

وأشار إلى أنّ "الهدف من المحاكمة لم يكن إعطاء الصوت للضحايا".

وبيّن أن "انطباعات الضحايا بشأن محاكمة صورية دون نتيجة حقيقية ودون معاقبة أحد، كانت صحيحة".

BBC
لا تزال صفا يونس تعيش في حديثة ولديها ثلاثة أطفال

قالت قوات مشاة البحرية الأمريكية (المارينز) إنها ملتزمة بإجراءات عادلة وشفافة وفقاً لقانون القضاء العسكري الموحّد، بما يضمن تطبيق مبدأ الإجراءات القانونية الواجبة".

وأضافت أنها "لن تعيد فتح التحقيق إلا إذا قُدِّم قدر وافر من الأدلة الجديدة غير المفحوصة والتي يُمكن قبولها".

ولم يستجب المدعي العام الرئيسي في القضية لطلب بي بي سي للتعليق.

تعيش صفا البالغة من العمر اليوم 33 عاماً في حديثة وهي أمّ لثلاثة أطفال. تقول إنها لا تفهم كيف لم يعاقب أي عنصر من قوات المارينز بشأن مقتل عائلتها.

حين عرضنا مقطع فيديو مندوزا عليها قالت "هذا الشخص المفروض أن يكون اقتيد إلى السجن من لحظة وقوع الحادث. كان من المفترض استحالة أنه يخرج إلى ضوء النهار".

تقول إنّ يوم مقتل عائلتها "كأنه حدث العام الماضي، لا أزال أفكر به".

وتتابع: "أريد أن يحاسب أولئك الذين فعلوا ذلك وأن يعاقبوا بموجب القانون. لقد مضى 20 عاماً دون محاكمة. وهذه هي الجريمة الحقيقية".

تغطية إضافية من ناماك خوشناو ومايكل إبستين

أخبار متعلقة :