في الذكرى الثمانين لنهاية الحرب العالمية الثانية، لم تقتصر احتفالات بكين على إحياء الماضي فحسب، بل تحولت إلى أداة سياسية فاعلة في الحاضر. يوضح مراقب الشؤون الصينية كاواشيما شين كيف يستخدم الرئيس شي جينبينغ هذه المناسبات لإعادة صياغة التاريخ بما يخدم أجندته الداخلية والخارجية، في محاولة لترسيخ شرعيته وتعزيز مكانة الصين على الساحة الدولية.
هروب القوميين الصينيين إلى تايوان
في الثالث من سبتمبر/أيلول عام 2025، كانت أنظار كل المراقبين اليابانيين المهتمين بالشأن الصيني متجهة نحو ساحة تيانانمن في بكين، حيث احتفلت الحكومة بالذكرى الثمانين لانتصار الصين في الحرب العالمية الثانية. وللثالث من سبتمبر/أيلول أهمية مزدوجة بالنسبة للصين، فهو لا يُخلّد ذكرى استسلام اليابان فحسب، بل يُخلّد أيضًا دور الحزب الشيوعي الصيني في دحر الفاشية العالمية.
من الناحية النظرية، كان هذا النصر من نصيب جمهورية الصين، التي كانت تحت سيطرة حزب الكومينتانغ (الحزب القومي) الذي كان يخوض حربًا أهلية مريرة ضد الحزب الشيوعي الصيني. وقد وقّع ممثل جمهورية الصين، الجنرال شو يونغ تشانغ، وثيقة استسلام اليابان في خليج طوكيو في الثاني من سبتمبر/أيلول عام 1945. ثم أقامت جمهورية الصين حفل نصر في تشونغتشينغ في اليوم التالي، ومنذ ذلك الحين اعتُبر الثالث من سبتمبر/أيلول يوم النصر على اليابان.
في الواقع، لا يزال يُحتفل بيوم 3 سبتمبر/أيلول في تايوان (التي فر إليها الكومينتانغ بعد هزميتهم على يد قوات ماو تسي تونغ الشيوعية في عام 1949) تحت اسم يوم القوات المسلحة. في 3 سبتمبر/أيلول 2025، احتفل الرئيس لاي تشينغ تي بالذكرى الثمانين لنهاية الحرب العالمية الثانية في ضريح الشهداء في تايبيه. وضمن تصريحاته في تلك المناسبة، دعا لاي إلى تجديد الالتزام الوطني بالدفاع عن تايوان وحماية الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان.
إلا أن يوم النصر في جمهورية الصين الشعبية له تاريخه الخاص. فعندما أسس الشيوعيون جمهورية الصين الشعبية في عام 1949، استقروا في البداية على أن يكون يوم 15 أغسطس/آب (اليوم الذي أعلن فيه الإمبراطور استسلام اليابان) هو يوم النصر. لكن في وقت لاحق، تم تغيير هذا التاريخ إلى 3 سبتمبر/ أيلول (بعد يوم من تاريخ انتصار أمريكا على اليابان) تضامناً مع جيران الصين الاشتراكيين، الاتحاد السوفيتي ومنغوليا. في العقود التي تلت ذلك، ترددت الصين مجدداً ما بين الخامس عشر من أغسطس/آب والثالث من سبتمبر/ أيلول، ولكن في فبراير/شباط 2014، أعلنت حكومة الرئيس شي جينبينغ رسميًا أن الثالث من سبتمبر/ أيلول هو يوم انتصار المقاومة الشعبية الصينية في حربها ضد العدوان الياباني. (وفي الوقت نفسه، تم تحديد عطلة جديدة في الثالث عشر من ديسمبر/كانون الأول، وهو اليوم الوطني لإحياء ذكرى ضحايا مذبحة نانجينغ).
رواية ذات دوافع سياسية
في البر الرئيسي للصين، تُعدّ هذه الأعياد والاحتفالات بها جزءًا من حملة أوسع نطاقًا يقودها الرئيس شي جينبينغ لتعزيز ما يسميه ”الفهم الصحيح للتاريخ“ في الداخل وحول العالم. ففي المدارس الصينية، أدخل نظام شي منهجًا دراسيًا جديدًا يتمحور حول تاريخ الحزب الشيوعي، ليس فقط لتعزيز الوطنية، بل أيضًا لضمان الإخلاص للحزب الشيوعي الصيني. وتماشيًا مع هذا التوجه، يُقلّل هذا السرد الجديد من أهمية دور الجبهة المتحدة الثانية، التي اتفق الشيوعيون والقوميون في ظلها على تعليق الحرب الأهلية الدائرة فيما بينهم لمقاومة الغزو الياباني. كما تم في هذا السرد تغيير تاريخ اندلاع الحرب الصينية اليابانية الثانية من عام 1937 إلى عام 1931 (عام حادثة موكدين)، وتصوير الشيوعيين على أنهم الأطراف الرئيسية الفاعلة في هذا الصراع الذي استمر 14 عامًا.
لا شك أن المنهج الجديد يوفر دعمًا تاريخيًا لسياسات نظام شي الداخلية والخارجية. فمع تغيير تاريخ بداية الحرب الصينية اليابانية الثانية إلى عام 1931، تصبح الجبهة الموحدة القومية-الشيوعية ضد اليابان، التي تشكلت في أعقاب حادثة شيان في ديسمبر/كانون الأول 1936، مجرد هامش في تاريخ الصين. كما أن هذا المنهج يعكس التحول في سياسة بكين بشأن إعادة التوحيد مع تايوان. فبعد انتخاب الرئيسة التايوانية تساي إنغ-وين في مايو/أيار 2016، تخلت بكين بشكل أساسي عن استراتيجيتها في السعي نحو التوحيد عبر ”جبهة موحدة ثالثة“ مع حزب كومينتانغ التايواني، وبدلاً من ذلك تبنّت سياسة بناء الدعم للتوحيد داخل المجتمع التايواني.
بشكل أعم، تعكس نظرة شي جينبينغ للتاريخ تركيزه على تعزيز الأمن الداخلي، إلى حد كبير من خلال تقوية سلطة الحزب الشيوعي الصيني المركزة (على عكس الدولة) وتشديد سيطرة الحزب على كل جانب من جوانب الحياة الصينية. وبالتزامن مع هذا الهدف، روّج النظام لمفهوم ”أمن الدولة“ الذي يشمل جميع المجالات تقريبًا، بما في ذلك الاقتصاد والبيئة. حيث يرى نظام شي جينبينغ ضرورةً توفير حماية مُحكمة من جميع التهديدات المُحتملة لأمن الدولة (أولويته القصوى)، وخاصةً تسلل عملاء الولايات المتحدة واليابان (من بين جهات أخرى)، الذين يسعون إلى تحريض ودعم العناصر التخريبية داخل الصين على أمل الإطاحة بالنظام الشيوعي. ويستهدف قانون مكافحة التجسس المُعدّل هذا التهديد بالتسلل مباشرةً، من خلال استهداف الأجانب والمواطنين الصينيين المُرتبطين بهم على حدٍ سواء. (تُعتبر الولايات المتحدة واليابان وغيرهما ممن يدعمون استقلال تايوان الفعلي قوىً مُعادية، نظرًا لمعارضتهم للهدف الوطني المتمثل في إعادة التوحيد).
تهدف كتب التاريخ المدرسية الجديدة في الصين إلى تبرير هذه اليقظة من خلال تسليط الضوء على العدد الكبير من الجواسيس اليابانيين الذين تسللوا إلى المجتمع الصيني قبل الحرب العالمية الثانية بمساعدة مُتعاونين محليين. كما تُشدد على الأثر المُدمّر للغزو العسكري الياباني على جهود بناء الأمة الصينية، بالإضافة إلى العدد الهائل من المواطنين الصينيين الذين فقدوا منازلهم وعائلاتهم وحياتهم نتيجةً لذلك. في الوقت نفسه، تعمل الدعاية الحكومية المتعلقة بعودة النزعة العسكرية اليابانية اليوم على ربط ماضي اليابان المؤسف بحاضرها. وقد مهدت هذه الرسائل الطريق لشائعات واسعة الانتشار مفادها أن جواسيس يابانيين يتسللون إلى الصين الآن بهدف إشعال ”ثورة ملونة“. وتشير نتائج استطلاع للرأي العام أجرته منظمة جينرون غير الربحية عام 2024 إلى أن انطباع الشعب الصيني عن اليابان قد تراجع بشكل حاد عن العام السابق. كما يعمل المؤرخون الصينيون التحديثيون على نزع الشرعية عن عملية السلام التي أعادت اليابان المهزومة من خلالها الانضمام إلى المجتمع الدولي.
وفي السنوات الأخيرة، بدأ المؤرخون الصينيون بنزع الشرعية عن معاهدة سان فرانسيسكو لعام 1951 (التي أعادت إرساء العلاقات السلمية بين اليابان وقوات الحلفاء)، مما أثار تساؤلات ليس فقط حول مكانة اليابان في نظام ما بعد الحرب، ولكن أيضًا حول الوضع القانوني لأوكيناوا، ناهيك عن تايوان. يُمثل هذا تحريضًا تاريخيًا كأداةٍ في السياسة الخارجية، يُستخدَم لدعم الأهداف الوطنية المتمثلة في تجاوز الولايات المتحدة، وتوحيد تايوان مع البر الرئيسي، وإعادة بناء النظام الدولي في شرق آسيا بما يخدم مصالح الصين.
وبالطبع، فإن هذا الاستخدام للتاريخ لدعم السياسة الداخلية والخارجية مستمر منذ فترة، كما هو الحال مع حملة نظام شي جينبينغ لنشر ”فهم صحيح وموحد للتاريخ“، إلا أن ما تغير منذ الذكرى السبعين لانتهاء الحرب قبل عقد من الزمان هو الوضعين الدولي والمحلي. وقد عدّل نظام شي جينبينغ سياساته وتصريحاته التاريخية استجابةً لهذه التغييرات.
استعراض القوة الصينية
ما الذي قدّمه احتفال الذكرى الثمانين إذًا ولم يكن واضحًا قبل عقد من الزمان؟ من الإضافات اللافتة في احتفال هذا العام الأسلحة فائقة التقنية التي عُرضت في العرض العسكري في 3 سبتمبر/أيلول. كما تجلّى ذلك في حشد القادة العالميين الذين انضموا إلى شي جينبينغ فوق بوابة السلام السماوي في ميدان تيانانمن.
في عام 2015، حضر حفل الذكرى السبعين مجموعة متنوعة أيديولوجيًا، ضمّت حتى رئيسة كوريا الجنوبية بارك كون هيه. أما في عام 2025، فقد كان غالبية المدعوين من قادة الدول النامية والناشئة، مع تصدر روسيا وكوريا الشمالية قائمة الحضور. كما أنه في عام 2015، كان شي جينبينغ يروّج لفكرة الصين كأحد مؤسسي النظام العالمي لما بعد الحرب، إلى جانب قوى غربية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا. لكنّ هذا الاتجاه تغير مع تدهور العلاقات بين الصين والولايات المتحدة. ففي عام 2017، أعلن شي جينبينغ بوضوح، خلال المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني، عن سياسة بناء نظام عالمي جديد كأحد الأهداف الوطنية للصين. ومنذ ذلك الحين، بدأت بكين في تضخيم الصراع بين العالم المتقدم والنامي، بينما انتقدت الأول ووصفته بأنه منقرض. يعكس اصطفاف القادة العالميين حول شي جينبينغ في احتفالات عام 2025 هذا التحول في التركيز.
في عام 2015، عندما كان التنسيق مع حزب الكومينتانغ التايواني لا يزال يُعتبر محوريًا لاستراتيجية إعادة توحيد بكين، انضم ضباط متقاعدون من القوات المسلحة لجمهورية الصين إلى العرض العسكري في 3 سبتمبر/أيلول. وبينما شارك عدد قليل من قدامى المحاربين في جمهورية الصين وشيوخ الكومينتانغ في احتفالات عام 2025، إلا أنهم لم يشاركوا في العرض العسكري.
لم يختلف خطاب شي جينبينغ في احتفالات عام 2025 كثيراً عن التصريحات التي ألقاها قبل عقد من الزمان، لكن الخطاب كان أقصر بشكل عام، وحُذفت منه بعض العناصر المهمة. ففي عام 2015، على سبيل المثال، وبعد التشديد على الحاجة إلى ”تعزيز الشعور القوي بمجتمع عالمي ذي مستقبل مشترك“، أكد شي على أنه ”يجب على جميع الدول أن تدعم بشكل مشترك النظام الدولي والمنظومة التي تدعمها مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، بالإضافة إلى بناء نوع جديد من العلاقات الدولية التي تتميز بالتعاون المربح لكلا الطرفين“ - وبالتالي التحول من النظام الدولي الحالي إلى النظام الصيني الجديد الذي تصوره شي والحزب الشيوعي الصيني. وعلى الرغم من أن خطاب عام 2025 تعهد أيضًا بأن الصين ”ستتعاون مع جميع شعوب العالم في بناء مجتمع ذي مستقبل مشترك للبشرية“، إلا أنه حذف الإشارات السابقة إلى النظام الدولي، واختار بدلاً من ذلك تسليط الضوء على أهمية ”بناء الصين لتصبح دولة عظيمة على جميع الأصعدة وتحقيق النهضة الوطنية العظيمة من خلال التحديث الصيني“. ويتماشى هذا التركيز مع الرسائل الأخيرة الصادرة عن القيادة العليا، والتي تؤكد على أهمية تحقيق الهدف الوطني المتمثل في ”التحديث الاشتراكي الشامل“ بحلول عام 2035.
ومن الفروقات المهمة الأخرى بين الخطابين، أنه في عام 2015، استغل شي جينبينغ مناسبة يوم النصر على اليابان للإعلان عن خفض عدد قوات الجيش الصيني بمقدار 300 ألف جندي. ومن غير المستغرب أن فكرة خفض الإنفاق الدفاعي غابت عن خطاب شي لعام 2025، الذي دعا فيه أفراد القوات المسلحة إلى ”الإسراع في بناء جيش من الطراز العالمي“.
تصاعد حدة الخطاب الصيني المعادي لليابان
فما هو إذًا موقع اليابان في رواية شي للتاريخ؟
رغم أن اللوم على اليابان يُعتبر جزءاً أساسيًا من عطلة الثالث من سبتمبر/أيلول، إلا أن خطاب شي جينبينغ لعام 2025 لم يتناول هذا الموضوع بإسهاب، إذ أن هذه المهمة كانت قد أُوكلت سابقًا إلى وزير الخارجية وانغ يي، في بيان صدر في15 أغسطس/آب.
لقد ألقى وانغ باللوم على العسكريين اليابانيين في حرب العدوان، وضمّ الشعب الياباني إلى ضحايا تلك الحرب، مُرددًا موقف الحزب الشيوعي الصيني الراسخ الذي يُفرّق بين الشعب الياباني والجهاز العسكري للإمبراطورية اليابانية. في الوقت نفسه، استغل وانغ البيان لتكثيف خطاب بكين المعادي لليابان. فبعد أن أشار إلى أن ”إعلان القاهرة وإعلان بوتسدام طالبا اليابان بإعادة جميع الأراضي التي استولت عليها من الصين، بما في ذلك تايوان“، أعرب عن أسفه لأن ”بعض القوى في اليابان لا تزال تحاول طمس أو إنكار العدوان، وتشويه أو تزوير التاريخ، بل وحتى تكريم مجرمي الحرب وتبرير جرائمهم“. واسترسل في حديثه مؤكدًا على أن مثل هذه الأفعال المشينة والمخزية لا تجلب العار إلا لأصحابها فضلاً عن كونها تتحدى ميثاق الأمم المتحدة والنظام الدولي لما بعد الحرب والضمير الإنساني وجميع شعوب الدول المنتصرة”. بالطبع، من المهم ملاحظة أن وانغ حصر انتقاده صراحةً في “قوى معينة”. ولكن دون تغيير التفسير الأساسي للتاريخ الذي يتبناه الحزب الشيوعي الصيني، فإن هذا البيان يمثل تصعيدًا كبيرًا في هجمات بكين الخطابية على اليابان.
كما يتضح مما سبق، فإن تفسير الحكومة الصينية للتاريخ - بما في ذلك رؤيتها أو منظورها لدور اليابان في الماضي والحاضر - يرتكز بقوة على فرضيات أساسية، ولكنه مرن بما يكفي للتكيف مع التحولات في السياسات الداخلية والخارجية للحكومة. وفي ظل البيئة الدولية المضطربة والمتقلبة اليوم، فإن التغيرات الظاهرة والخفية في الخطاب التاريخي لبكين تستحق مراقبة دقيقة وخاصة.
(نُشر النص الأصلي باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان: الرئيس الصيني شي جينبينغ يستعرض القوات في العرض العسكري الذي أقيم احتفالاً بالذكرى الثمانين لانتصار حرب المقاومة الشعبية الصينية ضد العدوان الياباني والحرب العالمية ضد الفاشية في ميدان تيانانمن في بكين، 3 سبتمبر/أيلول 2025. © وكالة أخبار أفلو/جيجي برس)
كانت هذه تفاصيل خبر اليابان | كيف تتبنى الصين سردية تاريخية متحيزة لخدمة مصالح الحزب الشيوعي الحاكم؟ لهذا اليوم نرجوا بأن نكون قد وفقنا بإعطائك التفاصيل والمعلومات الكاملة ولمتابعة جميع أخبارنا يمكنك الإشتراك في نظام التنبيهات او في احد أنظمتنا المختلفة لتزويدك بكل ما هو جديد.
كما تَجْدَرُ الأشاراة بأن الخبر الأصلي قد تم نشرة ومتواجد على نيبون وقد قام فريق التحرير في الخليج 365 بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر من مصدره الاساسي.