ابوظبي - سيف اليزيد - هالة الخياط (أبوظبي)
في إطار توجيهات صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، بتخصيص عام 2026 «عام الأسرة»، تواصل دولة الإمارات ترسيخ نهجها القائم على الاستثمار في الإنسان والأسرة بوصفها نواة المجتمع ومصدر قوته. ويشكّل مسار مراجعة السياسات والبرامج المؤثرة في نمو الأسرة، أحد الركائز الأساسية لهذا العام، لما له من دور محوري في صياغة بيئة اجتماعية واقتصادية وثقافية تعزّز استقرار الأسرة الإماراتية، وتدعم قدرتها على التكيّف مع المتغيرات الحديثة.
وفي هذا الاطار، شدّد الدكتور عبداللطيف العزعزي، مستشار في العلاقات الأسرية وتربية الأبناء، على أن الأسرة تمثّل اللبنة الأولى في بناء المجتمع، وأن الاستثمار في استقرارها هو استثمار في مستقبل الوطن.
وقال: «الأسرة تتكوّن من زوج وزوجة يشكّلان القاعدة الأساسية لبناء المجتمع، وكل استثمار في هذه اللبنة هو استثمار في الاستدامة الاجتماعية. فكما أن الاستدامة تشمل البيئة والاقتصاد، فإن أهم أنواعها أيضاً، هي استدامة المجتمع من خلال أسر مستقرة ومتماسكة».
وأوضح العزعزي أن تأسيس القيم الأسرية يجب أن يبنى على أسس قوية ومتوازنة، تجمع بين الرعاية والعطاء والمسؤولية، مؤكداً أن توازن الأدوار بين الأب والأم يعزّز التكامل داخل الأسرة، ويضمن نشأة أطفال متوازنين نفسياً واجتماعياً.
وتابع: «نحتاج إلى مراجعة بعض السياسات الحالية استناداً إلى دراسات علمية توضّح مخرجاتها، وتحدّد مواطن القوة والضعف فيها، بما يواكب المتغيرات العصرية ويحافظ في الوقت نفسه على الهوية الوطنية والعادات الأصيلة التي تشكّل جوهر المجتمع الإماراتي».
وأشار إلى أن تحديث السياسات الأسرية يتعين أن يُعنى بتأهيل الأجيال الجديدة على القيم والمبادئ والسلوكيات الصحيحة، وأن يُوازن بين متطلبات التطور العلمي والتكنولوجي وبين الحفاظ على الأصالة والعادات الإماراتية في الاحترام والتكافل والكرم والتعامل الإنساني.
التحولات العصرية
من جانبها، تؤكد الدكتورة سهى الحسن، مستشار تنمية الطفولة المبكرة في هيئة أبوظبي للطفولة المبكرة، أن مراجعة السياسات والبرامج الاجتماعية أصبحت ضرورة استراتيجية لضمان بقاء الأسرة في موقع التوازن بين الأصالة والتجديد. وقالت: «التحولات السريعة في أنماط الحياة وسوق العمل والتكنولوجيا تفرض إعادة تقييم دائمة لمدى فاعلية السياسات الأسرية في تحقيق التوازن بين الحفاظ على القيم وبين القدرة على التكيّف مع التغيرات الحديثة».
وترى الدكتورة الحسن أن المراجعة الدورية للسياسات، تساعد على رصد الفجوات بين الأهداف والنتائج الواقعية، وتتيح تطوير برامج جديدة تتماشى مع التغيرات الديموغرافية، مثل ارتفاع سن الزواج أو تغير أدوار المرأة في المجتمع.
وتابعت: «إن إعلان 2026 عاماً للأسرة فرصة لإعادة تنظيم السياسات ضمن إطار وطني شامل يجمع بين العمل والإسكان والتعليم والإعلام، مع تعزيز أنماط عمل مرنة تدعم التوازن بين الحياة المهنية والأسرية». وشددت على أهمية تعزيز الهوية واللغة العربية في البيئة الرقمية، ودعم برامج تمكين المرأة من دون الإخلال بدورها الأسري، وتحديث التشريعات التي تحمي الطفل وتنظم المحتوى الإلكتروني.
وأكدت أهمية تكامل جهود جميع الجهات الحكومية والخاصة والمجتمعية في إطلاق مبادرات واقعية تراعي القيم الإماراتية وتلبي احتياجات الأسرة العصرية.
شراكة الأدوار وتكامل الجهود
بدورها، تقول حنان سكر، مستشار المشاريع الخاصة والشراكات في هيئة أبوظبي للطفولة المبكرة: «في ظل هذه المتغيرات، تصبح مراجعة السياسات والبرامج ضرورة وطنية لضمان قدرة الأسرة على التكيّف مع متطلبات الحياة الحديثة، وتعزيز تماسكها الاجتماعي بما ينسجم مع توجهات إمارة أبوظبي ودولة الإمارات».
وأكدت سكر أن المراجعة يجب أن تركّز على أربعة محاور رئيسة: «تمكين الوالدين نفسياً واجتماعياً واقتصادياً، وتعزيز التوازن بين الحياة الأسرية والعمل عبر سياسات مرنة، وتطوير منظومة دعم تمتد عبر مراحل الحياة، وتوحيد الجهود المؤسسية ضمن إطار وطني متكامل». وترى أن هذا التوجه استثمار استراتيجي في رأس المال الاجتماعي يضمن أن تبقى الأسرة نموذجاً عالمياً للتماسك والهوية والرفاه المستدام.
وتضيف سكر: «أبرز مجالات التحديث اليوم تشمل سياسات العمل والرعاية الاجتماعية، إذ لا تزال المرونة في ساعات العمل وإجازات الوالدين محدودة، وهذا يُلقي بعبء مضاعف على الأمهات، ويُقيّد مشاركة الآباء في التربية اليومية، مما يزيد الضغط النفسي والمهني ويؤثر في جودة العلاقات الأسرية».
واقترحت إعادة تصميم سياسات العمل لتصبح أكثر توافقاً مع واقع الأسرة الحديثة، من خلال العمل المرن والعمل الجزئي والعمل عن بُعد، وتشجيع المؤسسات على إنشاء بيئات عمل صديقة للأسرة، مثل مساحات رعاية الأطفال. وأكدت أن تبنّي هذه الممارسات ليس رفاهية، بل ضرورة لتعزيز رأس المال الاجتماعي والاقتصادي وضمان بيئة عمل داعمة للأسرة.
التوازن بين الحداثة والقيم
من جهتها، توضح شيخة سعيد الزحمي، أخصائي العلاقات الأسرية: «إن التغيرات المتسارعة في أنماط الحياة والعمل تتطلب سياسات أكثر مرونة وشمولاً تدعم التماسك الأسري وتمكّن المرأة والشباب، وتستجيب لتأثيرات التحول الرقمي».
وترى الزخمي أن إعلان 2026 «عام الأسرة» فرصة لصياغة سياسات متوازنة تجمع بين متطلبات الحياة العصرية والحفاظ على القيم والهوية الوطنية، من خلال اعتماد سياسات قائمة على البيانات، وتوسيع الشراكات المجتمعية، وتعزيز البرامج التوعوية بالقيم الإماراتية، بما يعزز دور الأسرة كمحور رئيس للتنمية الاجتماعية.
وفيما يخص المجالات ذات الأولوية للتحديث، بينت الزحمي أنها تشمل عدة جوانب، فمن الناحية الاجتماعية فالحاجة قائمة لتعزيز دور القطاع الاجتماعي لما يمثله من أهميه تقديم الدعم النفسي والتربوي للأسرة للحفاظ على تماسكها واستقرارها، والنظر في سياسات توفير المساكن للأسر الشابة بما يتواءم مع متطلبات الحياة الأخرى، إضافة إلى التركيز على بناء سياسات عمل مرنة، وتشريعات تراعي التوازن بين متطلبات الوظيفة والواجبات الأسرية، فضلاً عن تطوير التعليم لتعزيز الهوية والقيم الوطنية.
أسر أكثر مرونة
تسعى الدولة من خلال مسار السياسات والاستراتيجيات إلى مراجعة شاملة للسياسات والبرامج المعنية بالأسرة، بما يضمن تكامل الجهود الحكومية والمجتمعية لتلبية احتياجات الأسر الإماراتية في مختلف المراحل.
ويهدف هذا التوجه إلى تعزيز مرونة الأسرة في مواجهة التحولات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية، وضمان قدرتها على النمو المستدام في ظل قيم راسخة وهويّة وطنية متينة.
وفي هذا السياق، أكدت نانسي مرعب، الخبير الرئيس في تنمية الطفولة المبكرة في هيئة أبوظبي للطفولة المبكرة، أن مراجعة السياسات والبرامج الحالية خطوة أساسية لضمان استقرار الأسرة الإماراتية وقدرتها على التكيّف مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية.
وقالت: «من خبرتنا في الهيئة تعلمنا أن دعم الآباء والأمهات وتزويدهم بالمعرفة والمهارات اللازمة لبناء ثقتهم بأنفسهم وتعزيز صحتهم النفسية والعاطفية والجسدية، ينعكس إيجاباً على استقرار الأسرة وتماسكها. وعندما نساعد الوالدين على التعامل مع التحديات وضغوط الحياة، سواء كانت ناتجة عن العمل أو الخلافات الزوجية، فإننا نُسهم في تقليل مستويات التوتر وتعزيز الروابط الأسرية».
وأضافت: أن أي سياسة أو برنامج جديد ينطلق من فهم التحديات الراهنة والتنبؤ بالتحولات المستقبلية، مع ربط هذه السياسات بالقيم والمعتقدات والعادات الإماراتية، مؤكدة أهمية أن تكون السياسات واقعية ومرنة تستجيب لاحتياجات الأسر، مع إشراك الأسر نفسها في عملية تصميم البرامج والسياسات لضمان فعاليتها وارتباطها بالواقع اليومي.
وأشارت إلى أن أبرز المجالات التي تحتاج إلى تحديث، هي أنظمة دعم الوالدين وتوفير خدمات متكاملة في قطاعات التعليم والصحة والمجتمع، إلى جانب الاستثمار في برامج التعليم والرعاية المبكرة للأطفال دون سن الرابعة، بما يتيح للأهل التواجد في سوق العمل من دون الإخلال بجودة الرعاية المقدمة لأطفالهم. ودعت إلى توسيع نطاق المبادرات المجتمعية بين الأجيال التي تعزز التواصل اللغوي والثقافي، وترسّخ اللغة العربية في بيئة الأسرة، إلى جانب الاهتمام بالصحة النفسية والدعم النفسي للوالدين والأطفال على حدّ سواء.
وأشارت مرعب أيضاً، إلى أهمية مراجعة سياسات الأبوة والأمومة وتحديثها لتصبح أكثر مرونة، قائلة: «ينبغي أن نعيد النظر في سياسات إجازة الأمومة والأبوة لتكون المدة كافية وتسمح للوالدين بالتواجد الحقيقي مع أطفالهم. وهذه السياسات يتعين ألا تكون مجرد مبادرات من بعض المؤسسات، بل إن تتحول إلى تشريعات ثابتة تضمن التوازن بين متطلبات العمل ورعاية الأسرة».
وأكدت أن «دعم الوالدين ليس رفاهية، بل ضرورة مجتمعية لحماية الأسرة من التفكك وضمان بيئة نمو صحية للأطفال».
منظور استراتيجي
ترى الدكتورة آمنة خميس الناخي، مؤسس ورئيس منصة بذرة للإرشاد الأكاديمي والمجتمعي والنفسي، أن مراجعة السياسات والبرامج ضرورة وطنية لضمان قدرة الأسرة الإماراتية على التكيف مع المتغيرات المتسارعة. وحددت الناخي محاور مهمة لتعزيز فعالية هذه المراجعة، تتمثل في تعزيز مرونة السياسات الأسرية لتواكب التحولات الرقمية والمعرفية، بما يمكّن الأسرة من التعامل مع التغيرات من دون فقدان تماسكها.
وأشارت إلى توجيه الموارد نحو دعم الاستقرار النفسي والاجتماعي للأسرة، خصوصاً في ظل تحديات العصر الرقمي، إضافة إلى اعتماد مؤشرات وطنية لقياس جودة الحياة الأسرية تشمل الصحة النفسية والعلاقات بين أفراد الأسرة والمشاركة المجتمعية، وتأسيس مراكز بحثية متخصصة في «علم الأسرة الإماراتية» لإنتاج بيانات محلية تُسهم في صناعة سياسات مبنية على أدلة. وأكدت الدكتورة الناخي أن الهدف ليس تطوير السياسات فحسب، بل التأكد من أثرها الفعلي على الأرض، قائلة: «الأسرة الإماراتية تستحق منظومة سياسات تستبق التحديات بدلاً من الاكتفاء بردود الفعل».
وعن المجالات التي تحتاج للتحديث، أكدت الدكتورة الناخي فيما يخص جانب الإسكان: توفير حلول مرنة للأسر الشابة ومجتمعات سكنية داعمة للترابط. وفي جانب العمل والتوازن الأسري، أشارت إلى ضرورة وجود سياسات عمل مرنة، بإجازات والدية متوازنة، وساعات عمل مرنة للمرأة العاملة. وفيما يخص الرعاية الاجتماعية والنفسية، دعت إلى تعزيز الإرشاد الأسري والدعم النفسي من خلال خدمات رقمية متاحة وسهلة الوصول. وفي جانب دعم الإنجاب وزيادة الخصوبة، أوصت برفع عدد محاولات الإخصاب المدعومة، وفحوصات ما قبل الزواج، والتوعية بالصحة الإنجابية.
وختمت الدكتورة الناخي: «عام 2026 مناسبة لتصميم نموذج أسري إماراتي قادر على المنافسة عالمياً ومتمسك بجذوره وطنياً. الأسرة الإماراتية تزدهر، وتنجب، وتربي جيلاً يحمل الوطن في القلب والعقل».
