شكرا لقرائتكم خبر عن سال السعودية توقع اتفاقية مع طيران أديل لتقديم خدمات لوجستية لمدة 3 سنوات والان مع بالتفاصيل
دبي - بسام راشد - أخبار الفوركس اليوم لم تعد المنافسة بين القوى الكبرى في القرن الحادي والعشرين تُخاض في ساحات القتال أو أسواق النفط، بل باتت تدور داخل الدوائر المجهريّة لأشباه الموصلات. هذه المكوّنات التي كانت تُعامَل سابقًا باعتبارها العمود الفقري غير المرئي للإلكترونيات الاستهلاكية أصبحت اليوم خط المواجهة الأول في الانقسام الجيوسياسي العالمي. ما بدأ كحرب تجارية قائمة على الرسوم الجمركية والاتهامات تحوّل إلى ما هو أخطر بكثير: حرب تكنولوجية شاملة تتمحور حول عنصر صغير في حجمه، بالغ في قيمته الاستراتيجية، هو الرقاقة الإلكترونية. وكما يقال: "من يسيطر على الرقائق، يسيطر على العالم." والسيطرة هنا تعني امتلاك زمام مستقبل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية وسلاسل الإمداد العالمية والتسلّح المتطور. من أجهزة التحكم بالتلفاز إلى الأقمار الصناعية، أصبحت رقائق السيليكون في كل مكان.
لكن المشكلة تكمن في أن واشنطن تنظر إلى التقدّم التكنولوجي الصيني على أنه تهديد وجودي لمكانة الولايات المتحدة، فيما ترى بكين أن الرسوم الأميركية محاولة لإجهاض صعودها قبل أوانه. ونتيجةً لذلك، بات كل حظر تصدير أو حزمة دعم مالي أو قيود على الأسواق يتردد صداها عالميًا، فتجرّ معها الحلفاء والخصوم إلى قلب المنافسة على أشباه الموصلات. ليست هذه مجرّد نزاعات تجارية، بل معركة معقّدة ستحدّد من سيحكم النظام العالمي المقبل: الولايات المتحدة بتفوّقها التكنولوجي أم الصين بحلمها في تحقيق الاكتفاء الذاتي. في هذه الحرب، الرهانات أعلى من أي وقت مضى، إذ لا تقل عن السيطرة على القوة العالمية نفسها.
بدأت هذه المنافسة مع الرسوم الجمركية عام 2018، حين اتهمت واشنطن بكين بسرقة الملكية الفكرية وممارسة ممارسات تجارية غير عادلة. وقد أطلقت هذه الاتهامات حربًا تجارية هزّت الأسواق العالمية، ثم تطوّرت لاحقًا إلى الصراع الأكثر استراتيجية: صراع أشباه الموصلات. إذ لا يزال ما يسمى في الصين بـ"قرن الإهانة" يشكّل رؤيتها للعالم، وترى في القوى الأجنبية محاولة جديدة لإبقائها متخلفة تكنولوجيًا، وهو ما جعل تصنيع الرقائق هدفًا سياسيًا ونهاية استراتيجية في حد ذاته.
وتمثل تايوان طبقة إضافية من التوتر، إذ تنتج الحصة الأكبر من أشباه الموصلات المتقدمة وتستضيف شركة TSMC، ما يجعلها أصلًا استراتيجيًا ووقودًا محتملاً للصراع. تقول واشنطن إنها تقف إلى جانب تايوان حفاظًا على تفوقها التكنولوجي، ولكن أهداف الصين أوسع: إعادة التوحيد وكسر القبضة الأميركية عليها. وهكذا باتت "حرب السيليكون" مرتبطة بأخطر نقاط الاشتعال الجيوسياسي في العالم. فالرقائق لم تعد مجرد مكوّنات، بل أسلحة قوة. الولايات المتحدة والصين لم تعودا في حالة منافسة؛ بل في حالة حرب بلا قنابل ولا صواريخ، بل بسلاسل إمداد ودوائر إلكترونية.
ما يميّز صناعة الرقائق هو أن لا دولة واحدة تستطيع السيطرة على العملية كاملة. فالولايات المتحدة تقود التصميم والبرمجيات، بينما تتولى تايوان وكوريا الجنوبية التصنيع عالي الدقة، وتوفر هولندا المعدات المحورية لعمليات الطباعة الضوئية، وتقدّم اليابان المواد المتخصصة. الصين ما تزال متأخرة في القطاعات المتقدمة. وأي عرقلة أميركية أو اضطراب في تايوان يمكن أن يشلّ صناعات كاملة، ما يجعل قطاع الرقائق أحد أكبر الاختناقات الجيوسياسية في العالم. إلا أن الأمر يتجاوز الاقتصاد، فالرقائق تُشغّل الطائرات المسيّرة والصواريخ الفرط صوتية وغيرها من أدوات الحرب الحديثة. والهدف الأميركي الاستراتيجي هو قطع وصول الصين للتكنولوجيا المتقدمة لضمان استمرار الهيمنة الأميركية.
والواقع قاسٍ: الحرب العالمية المقبلة قد لا تُخاض بالدبابات أو السلاح النووي، بل بأشباه الموصلات. من سيفوز في حرب الرقائق لن يهيمن على التكنولوجيا فحسب، بل سيضع أيضًا قواعد النظام العالمي الجديد. لذا يُنظر للسيليكون على أنه النفط الجديد، والصلب الجديد، بل البارود الجديد للقرن الحادي والعشرين.
ترى الولايات المتحدة أن حرب الرقائق هي بوابة القوة في القرن الحالي، ولهذا انتقلت أشباه الموصلات من مجال التجارة إلى مجال الاستراتيجية. لم تعد تُعامل كسلع استهلاكية، بل كأسلحة نفوذ. وتصر واشنطن على الحفاظ على مكانتها كالقوة العظمى الوحيدة، وفي العصر الرقمي، تعتبر أشباه الموصلات سلاحها الأكثر فتكًا. استراتيجيتها ذات مسارين: خنق التطور التكنولوجي الصيني وبناء حصن من الحلفاء لحماية تفوقها في الرقائق. ويتضمن ذلك حظر شركات مثل "هواوي" و"SMIC"، ووضع شركات تكنولوجيا صينية على قوائم سوداء، وفرض قيود على معدات الطباعة الضوئية المتقدمة.
يمثل "قانون الرقائق والعلوم" لعام 2022، الذي يتضمن أكثر من 50 مليار دولار في الدعم، تأكيدًا على أن السيليكون أصبح مسألة أمن قومي لا اقتصاد. والأهم هو كيف نجحت أمريكا في جرّ حلفائها — اليابان وهولندا وكوريا الجنوبية وتايوان — إلى هذا التحالف السيليكوني، مستخدمةً إياهم لفرض سياساتها. كما أن قرار TSMC بناء مصانع جديدة في أريزونا يتجاوز الاقتصاد، إذ يشكّل خطوة جيوسياسية لترسيخ النفوذ الأميركي في مجال الرقائق المتقدمة.
سيقول الواقعيون إن هذا التحالف ليس تعاونًا بل اصطفافًا من أجل البقاء. خطوط حرب باردة جديدة ترسمها واشنطن لتحدد من سيحكم ومن سيتبع. إن تحويل أشباه الموصلات إلى سلاح سبقه بكثير زمن المنافسة الاقتصادية الحرة؛ فهو يدور حول حماية الهيمنة في نظام أصبحت فيه التكنولوجيا السيف الأكثر حدة. قد تسعى واشنطن إلى منع الصين من تحقيق التكافؤ، لكن بكين ترى في كل حظر وكل عقوبة امتدادًا للتاريخ المرير من الإذلال. ولهذا تعد أشباه الموصلات محور البقاء الوطني في الصين، فتأتي ثورة "صنع في الصين 2025" والدعم الحكومي الهائل لإنتاجها كجزء من هذه الرؤية. تنفق بكين مليارات الدولارات على السيليكون — في البحث والتصميم والتصنيع — وتستقطب مهندسين وباحثين من أنحاء العالم لتحقيق هدفها البسيط: تحقيق الاكتفاء الذاتي وإنهاء اعتمادها على الغرب.
لكن لا تزال الصين تعاني ممّا يسميه الواقعيون "فخ الاعتماد التكنولوجي". قد تصمّم الرقائق لكنها ما تزال تعتمد على معدات الطباعة الهولندية، ومصانع تايوان، والبرمجيات الأميركية. إن الصين تصعد جبلًا تكنولوجيًا بينما تواصل الولايات المتحدة إزالة درجات السلم. وبالنسبة لبكين، فإن كسر قبضة واشنطن على التكنولوجيا هو جوهر النهضة الوطنية. أما بالنسبة لشي جين بينغ، فأشباه الموصلات ليست مجرد رقائق ترفع الاقتصاد، بل أداة للسيادة. وفي عالم أصبحت فيه التكنولوجيا ساحة معركة، فإن خسارة الصين لهذه الحرب ستعني "قرن إذلال" جديدًا، بينما قبول الولايات المتحدة بالمساواة الصينية سيعتبر تخليًا عن القيادة العالمية. كلا السيناريوهين غير مقبول في النظام الدولي الحالي. إنها منافسة وجودية لا مجرد تنافس اقتصادي.
ولم يعد الأمر صراعًا أميركيًا–صينيًا فقط، بل إعادة تشكيل كاملة للنظام العالمي. هناك الآن عالمان تكنولوجيان متوازيان: عالم يستخدم الرقائق الأميركية وسلاسل الإمداد الغربية، وآخر ينسجم مع النمو المتسارع للنظام الصيني. ويقع الحلفاء في المنتصف. فتايوان، التي تنتج 90% من الرقائق الأكثر تقدمًا، أصبحت ذات قيمة استراتيجية هائلة وشرارة محتملة للنزاع. وكوريا الجنوبية تقف عند مفترق طرق بين التحالف الأمني مع الولايات المتحدة وأكبر أسواقها التجارية في الصين. أما هولندا، فقد تحولت صناعتها إلى أداة في الاستراتيجية الأميركية بعدما أُجبرت على منع شركة ASML من بيع معدات متقدمة للصين. وحيث إن الاتحاد الأوروبي لا يرغب في الانحياز، فقد بدأ بضخّ مليارات في بناء قطاع رقائق مستقل لكي لا يتخلّف في عالم أصبحت فيه التكنولوجيا السلاح النووي الجديد.
لكن في الوقت ذاته، سيدفع الاقتصاد العالمي ثمنًا باهظًا، حيث يؤدي انقسام سلاسل الإمداد إلى ارتفاع التكاليف، وتكرار غير ضروري للإنتاج، وتراجع الابتكار. وفي ظل هذه الظروف، لن يكون أمام الدول النامية سوى الانضمام لأحد المعسكرين — تحالف مفروض عليها لأنها لم تختر هذه الحرب. وفي الوقت ذاته، سيظل الاقتصاد العالمي في حالة اضطراب عميق.
قد يقول الواقعيون إن هذا التطور طبيعي في منافسة القوى الكبرى، لكن الرهانات أشد خطورة. فإذا كان القرن العشرون قرن "حروب النفط"، فسيُذكر القرن الحادي والعشرون على أنه قرن حروب السيليكون. والجانب المظلم من هذه الحرب هو أن النفط وُجد في مناطق مختلفة، بينما الرقائق تتركز في نقاط اختناق محدودة، ما يجعل الاقتصاد العالمي هشًا وأكثر عرضة للصدمات والصراعات في المستقبل. لذلك فإن حرب أشباه الموصلات ليست اقتصادية فحسب، بل قنبلة جيوسياسية.
الخلاصة:
إن منافسة أشباه الموصلات ليست مواجهة تقليدية بين جيوش، بل معركة أعقد بكثير، متشابكة مع شرايين الاقتصاد العالمي. فكل قيد تفرضه الولايات المتحدة يزيد من إصرار الصين، وكل سعي صيني للاكتفاء الذاتي يزيد خوف واشنطن من خسارة هيمنتها، في دورة مستمرة من التصعيد بلا نهاية. ولا يمكن تسوية هذه المنافسة عبر الدبلوماسية أو التسويات كما حدث في نزاعات التجارة السابقة، لأن التكنولوجيا أصبحت جوهر القوة. ومع ذلك، ففي سعي كل طرف إلى الهيمنة، سيعمل كل من واشنطن وبكين على إضعاف النظام ذاته الذي يقوم عليه اقتصادهما.
وسيسجل التاريخ "الحرب الباردة السيليكونية" للقرن الحادي والعشرين — لا باعتبارها عصر الابتكار — بل كالقوة التي فككت النظام العالمي.
